لم يكن انتقال فردريكا موغيريني من منصب وزيرة خارجية إيطاليا إلى منصب “المندوبة السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية أو-باللغة الدارجة وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي أمراً سهلاً . لقد اعترضته تحفظات العديد من الناقدين والمعارضين . قالوا إنها لا تملك خبرة كافية في قضايا السياسة الدولية، وتحفظ عليها البعض لأنها “متهاونة” مع موسكو . ونبش البعض سجلات التسعينات ليجد فيها أدلة على أن فردريكا كانت من “المتطرفات” في صفوف اليسار الإيطالي .
صحيح أن هذه المعلومات تعود إلى مطلع التسعينات، إلا أنها أثيرت مجدداً ضد ترشحها للمنصب الأوروبي . ولكن في نهاية المطاف، أمكن حسم الجدل لمصلحتها ولمصلحة الاشتراكيين الإيطاليين الذين تمسكوا بترشحها، ولمصلحة الاشتراكيين الأوروبيين الذين رغبوا، عبرها، في دعم حكومة يسار الوسط الإيطالية الحالية .
إن فردريكا لم تتمكن من تخطي الصعاب ومن التحول إلى وزيرة خارجية أوروبا فحسب، بل إنها تعتزم أيضاً مراجعة “سياسة الجوار الأوروبي” . ولقد مضت 10 سنوات على وضع هذه السياسة فإن وقت مراجعتها خاصة بعد متغيرات المنطقة العربية . بالطبع، فإن المراجعة سوف تتوقف مطولاً عند العلاقات الأوروبية – العربية . ومن المقدر أن تخوض موغيريني في هذا الموضوع بيسر وكفاءة نظراً لخبرتها فيه . اكتسبت فردريكا بعض هذه الخبرة من ماضيها كناشطة في مجال حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية حيث كانت تلتقي العديد من أقرانها من العرب، واكتسبتها أيضاً من تخصصها في الدراسات الإسلامية في جامعة “ايكس اون بروفنس” في فرنسا . هذا الزاد المعرفي يساعدها على إدارة مراجعة نزيهة ومتنورة لمراجعة سياسة الجوار الأوروبي مع الدول العربية حيث تبرز ثلاث قضايا أساسية في سجل العلاقات بين الطرفين .
القضية الأولى التي تستحق المراجعة قد تبدو قابلة للتأجيل، ولكنها في تقديري بالغة الأهمية لأنها تشكل مدخلاً مناسباً لكافة القضايا الأخرى . إنها قضية التعاون الإقليمي نفسه . فحتى يثمر التعاون الإقليمي، لا بد من أن تحدد بوضوح هوية الأطراف المتعاونة والإطارات التي تجمعها وآليات التعاون ووسائله، كما يقول كارل براش، المدير المشارك لمؤسسة متخصصة بالنزاعات الدولية، في دراسة مهمة أعدها مع عدد من الاختصاصيين حول أثر التعاون الإقليمي في إعادة إعمار المجتمعات التي هدمتها النزاعات المسلحة .
باختصار شديد أنه لا بد من مأسسة التعاون على نحو يعزز فوائده . حتى الآن اتجه الاتحاد الأوروبي إلى تغييب الهوية الجماعية للشريك العربي، وإلى بناء العلاقات مع كل دولة عربية على حدة وعلى أساس ثنائي . إذا قارنا هذا النهج للاتحاد الأوروبي مع النهج الذي اتبعه الاتحاد في التعامل مع المنظمات الجماعية في دول أمريكا الجنوبية والقارة الإفريقية يمكن الاستنتاج بأن سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الجوار العربي أسهمت في تنمية هذه المنظمات وتعميقها مقابل الإسهام في تفكيك النظام الإقليمي العربي . هذا النهج أسهم في اضعاف الدول العربية وفتح باب المنطقة أمام الأعاصير وأمام المشاريع والأفكار والنظريات المعادية للتقدم والنهضة والتنمية البشرية .
القضية الثانية التي تشغل العرب والأوروبيين اليوم هي الأمن الإقليمي . من المؤكد أن هذه المسألة تتخذ بعداً أكثر مأساوية في الدول العربية منها في الدول الأوروبية . ولكن المخاوف التي يثيرها ظهور منظمات دموية الوسائل والأفكار هي مخاوف أوروبية حقيقية . إن الأوروبيين يخشون انتقال النشاط الإرهابي إلى دول القارة بحيث ينال من نظامها الديمقراطي مما يرقى إلى مستوى الكوارث الوطنية في أوروبا . تأكيداً على جدية المخاوف ومسبباتها يعتقد مسؤولون أوروبيون أن عدد حملة جوازات السفر الأجنبية الذين يقاتلون في سوريا وحدها بلغ 12 ألفاً أكثرهم من أوروبا . إذا عاد هؤلاء إلى بلاد المهجر فقد يثيرون فيها الأعاصير الأمنية .
لقد قال أحد المسؤولين العسكريين الأمريكيين الكبار قبل أيام، إن هذا الإرهاب لا يهزم من الخارج بل من داخل العالمين العربي والإسلامي . وهذا الرأي مصيب جزئياً إذ إن الداخل وحده لن يتمكن من هزيمة الإرهاب بالفاعلية المطلوبة والسرعة الكافية . إن القضاء على الإرهاب يتطلب تعاوناً بين العرب والمجتمع الدولي . ولكن التعاون، خاصة مع دول الغرب يصطدم، من وجهة نظر عربية، بذكريات غير مشجعة .
لقد تعاون فريق من العرب مع القوى الغربية في الحرب العالمية الأولى، فكان أن نجا العرب من التتريك لكي تتقاسمهم الأمبرياليات الأوروبية . وتعاون فريق من العرب مع الولايات المتحدة ومع دول أطلسية بغرض تغيير نظام الحكم في العراق وتحويله إلى أرض للاستقرار والديمقراطية، فاذا بالاحتلال ينفذ سياسة تدمير منهجية للعراق . إن هذه الذكريات سوف تمثل في الأذهان وتعيق التعاون البناء بين الدول العربية والاتحاد الأوروبي ما لم تتوفر ضمانات تحول دون تجدد نفس النهج الذي سلكته الدول الأوروبية في العلاقات مع العرب .
القضية الثالثة هي المسألة اليهودية . يعلم العرب أن أوروبا تعاني عقدة ذنب تاريخية تجاه اليهود . تكونت هذه العقدة بفعل أحداث تاريخية متراكمة، واضطهاد أصاب اليهود في شتى المجتمعات الأوروبية بما فيها أقربها إلى مفاهيم التنور والمساواة . ويعلم العرب أن الدول الأوروبية تحاول أن تتصالح مع تاريخها عبر إنصاف اليهود وضمان أمنهم وحريتهم بما يحول دون تكرار المحرقة . ولا نعتقد أن العرب يعارضون هذا النهج . الحقيقة أنهم سباقون فيه كما يشهد التاريخ . ولو اتفقت الدول الأطلسية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على تأسيس كيان عبري في أوروبا تعويضاً لهم عما تعرضوا له خلال الحرب، ولو تأسس هذا الكيان بالرضا التام، لما كانت لدى العرب أية مشكلة معه . وعندما أسس ستالين كياناً لليهود في بيروبيجان لم يعترض أحد في المنطقة العربية على هذا القرار . المشكلة بدأت عندما أصرت دول الأطلسي على إرضاء الحركة الصهيونية على حساب العرب وعلى حساب الفلسطينيين وعلى حساب أمانيهم القومية المشروعة . والمشكلة تطورت مع تفاقم طلبات التعويض التي تقدمها الحركة الصهيونية إلى المجتمع الدولي وإلى الغرب من دون انقطاع . والمشكلة تضخمت عندما دأب الغرب على دفع هذه التعويضات من حقوق العرب . إن هذا النهج سوف يبقى سبباً لنزاع لن يتوقف ولعدم الاستقرار في منطقة المتوسط وللتوتر في العلاقات الأوروبية – العربية .
في تاريخ العلاقات البشرية توجد أحياناً قضايا معقدة تبدو مستعصية على الحل . تتوارث الأجيال هذه القضايا على مر الأزمان، وقد تتراجع فترة لكي تتفاقم لفترات طوال، ولكنها في كافة الحالات تبقى مخيمة على الأذهان والعقول . حتى ولو كانت مشكلات العلاقات الأوروبية – العربية من هذا النوع، فإنه من المفيد مواجهتها بنزاهة وبصدق ومن قبل مسؤولين يتحلون بهذه الصفات بأمل أن يجد أولي الأمر الحلول والمخارج الممكنة فيتحول المتوسط إلى بحيرة سلام .
الأخبار اللبنانية