هل تذكرون تلك الفقرة المحركة للمشاعر في خطاب الرئيس باراك أوباما في القاهرة في العام 2009، والتي قال فيها: “من أجل التحرك قدما إلى الأمام، يجب علينا أن نقول بصراحة تلك الأشياء التي نحتفظ فيها في قلوبنا، وكذلك أيضاً ما يقال خلف الأبواب المغلقة” لم أستطع التوقف عن التفكير في ذلك عندما قرأت ملاحظات وزير الخارجية، جون كيري، المنضبطة والمقيَّدة بشدة خلال زيارته الخاصة للقاهرة مؤخراً، حين أصر على إن الإدارة راضية عن التقدم الذي أحرزته مصر على صعيد استعادة الديمقراطية، وبذلك، فإن قرار التعليق المؤقت لتزويد مصر باللأسلحة —الطائرات النفاثة والدبابات وطائرات الهليوكبتر والصواريخ- لم يكن القصد منه العقاب.
لم تكن رحلة كيري متسمة بالصراحة عموماً. لم يكن وزير الخارجية يفصح عما في قلبه عندما سافر إلى العربية السعودية وأجاب على سؤال حول ما إذا كان يجب أن تتمتع النساء بحق قيادة السيارة بارتباك بملاحظة مفادها: “الأمر يعود للعربية السعودية لتتخذ قراراتها الخاصة فيما يتعلق بخياراتها المتعلقة ببنيتها الاجتماعية وتوقيت الأحداث.” لكن العربية السعودية تعد حليفاً صارم الحكم بشكل لا سبيل إلى تغييره، كما يجري ضبط الدبلوماسية بين واشنطن والرياض من خلال التفادي المؤدب للصراحة. وفي الحقيقة، رد وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، عبر نفي أن تكون العلاقات بين الدولتين “تتدهور على نحو درامي.” لكن الجديد أن الولايات المتحدة تشعر راهناً بأنها مجبرة على معاملة مصر بالحذر والدقة الشديدين اللذين كانت تحتفظ بهما في العادة للسعوديين.
الاستدلال الذي أستطيع استخلاصه من مشي كيري الحذر على رؤوس أصابع قدميه لا يتعلق كثيراً بأن الرئيس أوباما تخلى عن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط كما يزعم غالباً، بقدر ما يتعلق بأن مصر تغيرت بطريقة تجعل واشنطن لا تكسب أي شيء من قولها الحقيقة. في العام 2005، عندما جاءت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كونداليزا رايس، إلى القاهرة، صدمت النخبة الحاكمة هناك بالقول: “يجب أن يأتي اليوم الذي يحل فيه حكم القانون محل قوانين الطوارئ.” لكنه كان لدى رايس جمهور آنذاك: الناشطون الذين نزلوا إلى الشوارع للاحتجاج على الحكم الأوتوقراطي للرئيس حسني مبارك. وقد سر أولئك الناشطون وتجاسروا على الأقل حتى العام 2007، عندما أرسل مبارك رجال عصاباته إلى الشوارع لاعتراض الانتخابات البرلمانية، بينما لم يقل بيت جورج دبليو بوش الأبيض شيئاً عن ذلك.
ما هو الجمهور الذي كان كيري ليخاطبه لو أنه كان قد تحدث عما يتخيله المرء مما في قلبه —أو ما يحب المرء أن يتخيله؟ الآن، تعاون الناشطون الليبراليون، بعد الإطاحة بالدكتاتور الذي كانت رايس وكان بوش يشيران عليه، مع العسكريين لخلع القادة المنتخبين ديمقراطياً، والذين حلوا محل مبارك. وكانت كراهية الليبراليين لحكومة الإخوان المسلمين كبيرة لدرجة أنهم قبلوا –في الوقت الحالي على الأقل- بما يبدو شبيهاً جداً بعودة الاستبداد. من المدهش أن كيري لم يقل أي شيء في القاهرة عن محاكمة الرئيس المصري السابق، محمد مرسي والاتهامات التي وجهت إليه، والتي تتضمن التحريض على القتل، والتي كان من المقرر أن تعقد غداة مغادرته القاهرة. ولو أنه كان قد فعل، لكان قد أغضب كلا من النظام الجديد وداعميه الليبراليين.
في ملاحظاته، كرر كيري ما وسعه التكرار أن انتقال مصر إلى الديمقراطية يجب أن يكون “شاملاً”، وهو ما كان تشفيراً للقول: “اشملوا الإسلاميين”. لكنه لم يتم أي شيء من هذا القبيل. فبعد يومين من مثول مرسي أمام المحكمة، أيدت محكمة عليا في القاهرة قراراً بحظر جماعة الإخوان المسلمين —في قضية كانت مرفوعة أصلاً من جانب حزب ليبرالي علماني. وتم إقصاء بهاء الدين، العضو الرفيع في الحكومة المؤقتة الذي كانت لديه الجرأة للدعوة إلى “المصالحة” مع الإخوان، ويدعي الآن بأنه أسيء فهمه.. كما أن تلك الديمقراطية لن تكون ديمقراطية حقة وفق كل الاحتمالات، نظراً لأن الحكام العسكريين الذين سيطروا على السلطة بانقلاب محوا من الناحية الفعلية حرية الصحافة —الصحافة المصرية الناطقة بالانكليزية التي قرأتها تحمل فقط التقارير الحقيقية بالكاد فيما يخص القضايا المثيرة للجدل— وهم يخططون لإصدار قانون يعطي وزارة الداخلية الحق في الموافقة على تنظيم المظاهرات مقدماً وإلغائها أو إعادة تحديد مواقعها.
التأكيد، كما فعل كيري، على أننا “نحتاج للإخلاص مع خريطة الطريق للسير قدماً إلى الأمام في اتجاه الديمقراطية” سيظل عبثياً بهذا الشكل. فالمسار الذي تسير فيه مصر هو مسار الحكم العسكري بواجهة مدنية –مثل باكستان حول العام 2007—بينما يسخط أنصار الإخوان المسلمين الذين يشعرون بالألم. وهذه وصفة لعدم الاستقرار، إن لم تكن للفوضى العارمة. وقد حاول كيري تغيير الموضوع عبر التركيز على “الخيارات الاقتصادية” الحاسمة لمصر، لكن قادة البلد لن يقدموا على صنع هذه الخيارات -طالما ظلت العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة مستعدة لتحويل مليارات الدولارات إلى الخزينة. ويبدو أنه من غير المعقول قول ذلك، لكن مصر تبدو الآن أقل احتمالاً لأن تكون مثل اليمن أو ليبيا لصنع انتقال نحو شكل حكومة أكثر ليبرالية وديمقراطية مقارنة مع ما كانت عليه من قبل. وقد شرعت المجموعات الرافضة في كل من تلك الدول، كما في تونس أيضاً، في عملية مصالحة وطنية، أو شرعت في التحدث عنها على الأقل. أما في مصر، فإن مجرد التفوه بالكلمة يعد ضرباً من الخيانة.
من وجهة نظر جمالية صرفة، سيكون من المفضل أن يتخلى مسؤولو إدارة أوباما عن الصدق للصالح السعودي بالكامل: “يعود الأمر لمصر لاتخاذ قراراتها الخاصة” إلخ. وبعد كل شيء، تحتاج الولايات المتحدة للبقاء على الجانب المصري بغية ضمان الوصول المباشر لقناة السويس وللإبقاء على علاقات هادئة مع إسرائيل وهكذا. وليس ثمة سسبب للاعتقاد بأن لدى واشنطن أي وسيلة ضغط على القاهرة في الوقت الحالي. فقرار أوباما وقف تسليم طلبية من الطائرات النفاثة والعمودية والصواريخ- التي تعد تافهة بالمقارنة مع ما اعتاده العسكريون في مصر- ارتد ببساطة على جلود الجنرالات الذين يقبضون على زمام الأمور في القاهرة. (كان وزير الخارجية المصرية قد تحدث عن التحول إلى روسيا من أجل الأسلحة). وإذا أصبحت مصر -مرة أخرى- حليفاً استبدادياً، فلماذا تعبأ واشنطن بادعاء خلاف ذلك؟
الجواب هو أن مصر ليست العربية السعودية: فالشعب الذي كسب حريته من الاحتجاج في الشوارع لن يستمر في قبول الترتيب العسكري الجديد بسلبية، خاصة وأن “بعبع” الإخوان المسلمين فقد بعضاً من قيمته الترويعية. وسوف تضمحل الهالة النابوليانية لقائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، خاصة إذا أصبح رئيساً وأصبح مسؤولاً عن حالات فشل الحكومة. وإذا نزل المصريون إلى الشوارع مرة أخرى للاحتجاج على حكومتهم ووجهوا مرة أخرى بالطلقات النارية من الجيش أو زجوا في السجون لإطلاقهم هتافات في ميدان التحرير، فإنهم سيتطلعون إلى الولايات المتحدة من أجل دعمهم كما سبق وأن فعلوا في العام 2011. ولذلك السبب، سيكون خطأً فادحاً أن تقدم واشنطن على وقف المساعدات كلها لمصر وإعلان البلد قضية خاسرة. وفي الحقيقة، يجب على إدارة أوباما زيادة مساعداتها الاقتصادية المستهدفة، سواء خفضت المساعدات العسكرية أم لم تفخضها. ولكن بشكل أدق، ولأن هناك مسوغاً للأمل بمستقبل أفضل، يجب على الولايات المتحدة الإبقاء على مصر مربوطة بالقيم الديمقراطية الخاصة بالثورة —حتى في لحظة فقد فيها العديد جداً من المصريين رؤيتهم لها.
إن الدبلوماسية ليست، بالطبع، أن تقول ما الذي في قلبك: إنها تتصل بقول ما يرجح أن ينتج الحصيلة التي تسعى إليها أكثر ما يكون. وفي الوقت الحالي، لن يفعل أي شيء تقوله أميركا أو تفعله، إيجابياً كان أم سلبياً، الكثير لإنتاج المحصلة التي تسعى إليها في مصر. أما وأن الأمر كذلك، فإن “الاحترام المتبادل”، باستخدام عبارة أخرى من تعبيرات أوباما في خطابه في العام 2009، يجب أن يملي توخي قدراً أكبر من الأمانة حين يتعلق الأمر بإخفاقات مصر.
(فورين بوليسي)
*زميل مركز التعاون الدولي. “شروط الإنخراط” هو عنوان العمود الذي يكتبه أسبوعياً لموقع مجلة فورين أفيرز.