تصعيد عنيف يمارسه الاحتلال في الضفة، وقد يكون للتطورات المفتوحة على الجبهات الأُخرى تأثير على هذا التصعيد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الضفة الغربية، الخاضعة لسلطة الاحتلال الفعلية وسيطرته الأمنية يحمل الاعتداء عليها اعتباراً خاصاً، يفرض على القوة القائمة حماية السكان. تماماً كما تتعرض غزة منذ أكثر من عشرة شهور لهجمات مدمرة على شعب محاصَر ممنوع من الحركة، ويُحرم من أبسط الحقوق الإنسانية وسط صمت دولي متواطئ. إن دعم الولايات المتحدة وحلفائها المفتوح لإسرائيل وصمت العالم أمام المجازر المقترفة في غزة يفتح لنا مجالاً لسوداوية التوقعات في الضفة أيضاً. استشهد أمس ١١ فلسطينياً في الضفة الغربية بعد هجمات طالت مناطق متفرقة فيها تركز جلها في الشمال، وفي سياسة غير معهودة في الضفة الغربية أنذر الاحتلال سكان مخيم نور شمس بالخروج من مخيمهم تمهيداً لقصفه، وكان قد بدأ سياسة قصف جوي لأهداف فلسطينية العام الماضي. إن هذه الأحداث تنسجم مع تصريحات سابقة تحدثت قبل أيام حول نية الاحتلال شن هجوم من نوع مختلف عن المتعارف عليه في الضفة الغربية، ويبدو أننا نشهد إرهاصاته.
جاء ذلك التحرك باتجاه الضفة الغربية في ظل ثلاثة عوامل، الأول يتعلق بنتنياهو وحكومته والتطلعات للبقاء في الحكم، وهو ما يتطلب بقاء الوضع الإسرائيلي في حالة أزمة، بينما يرتبط العامل الثاني بتطورات الهجوم على غزة والذي لم يحقق أهدافه بالقضاء على حركة حماس، الصامدة في الميدان، وعدم إخراج المحتجَزين، وبقاء الوضع ضمن حدود حالة من الاستنزاف في غزة، ويتعلق العامل الثالث برد حزب الله الأخير، والذي أكد على خلاصة تفيد بصعوبة فكرة الذهاب لحرب مع لبنان الآن في ظل الظروف الحالية. في إطار هذه العوامل وتفاعلاتها، يبقى إشعال نتنياهو لجبهة الضفة الغربية الآن أقل الأثمان تكلفةً لضمان استمرار حكومته، وذلك بتنفيذ خطط موضوعة سلفاً. وهذا من شأنه أن يعني أننا أمام جبهة مفتوحة وممتدة زمانياً، أي ليست مجرد أحداث عابرة متفرقة، بل هي خطة لضبط الأوضاع ورسم الحدود في الضفة الغربية.
لعل أهم التطورات التي جدت على الساحة اليوم في ظل معارك نتنياهو المفتوحة، رد حزب الله الأخير قبل أيام، والذي قد تكون نتائجه محفزاً لاضطرار نتنياهو لفتح جبهة الضفة. ليس من الخفيّ أن إيران وحزب الله عملا بكل طاقاتهما لمنع اندلاع حرب إقليمية واسعة مع الاحتلال، تجنباً لأثمانها الباهظة، وتعطيلاً لأهداف نتنياهو وتوجهاته. أكد هجوم حزب الله قبل أيام على صعوبة خوض الاحتلال عملياً حرباً عسكرية واسعة ومباشرة مع حزب الله، رغم توجه ورغبة حكومة نتنياهو اليمينية لذلك، في ظل تعقدات المشهد الميداني وتحذيرات الحليف الأميركي ونصيحة حلفاء غربيين.
وفي ظل عدم رغبة حزب الله وإيران بخوض هذه الحرب مع الكيان المحتل وتوسيع جبهة القتال، أرسل الحزب عدداً من الرسائل من خلال رده الذي جاء قبل أيام، حيث تعمد تأخيره لمدة شهر تقريبًا، في ظل ترتيب حدود الرد، وإعطاء فرصة لمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة التي أطلقتها الولايات المتحدة في أعقاب حادث اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية لامتصاص فرصة نشوب حرب انتقامية، ليثبت الحزب أن أولوياته وقف الحرب على غزة، وأن من شأن وقف العدوان في القطاع إطفاء جميع الجبهات المشتعلة الأخرى.
بدأ رد الحزب بعد وقت قصير من قيام طيران الاحتلال بضرب مواقع عسكرية لحزب الله، بما اعتبره “ضربة استباقية” لإحباط هجوم أكبر لحزب الله. ورغم تلك الضربة الاستباقية تمكن حزب الله من تنفيذ هجومه، الذي وصفه بـ “المحدود” وفق المخطط له. وجميعنا يدرك أن حزب الله أراد أن يقدم رداً نوعياً متوازناً لا ينتهي بحرب إقليمية أوسع لا يريدها، ولا يريد استهداف المدنيين، وفي نفس الوقت أراد رداً قوياً، يتناسب مع اغتيال شكر. إن إيعاز نتنياهو للوزراء والنواب والمسؤولين بعدم الإدلاء بتصريحات إعلامية في أعقاب رد حزب الله، وتوجيه انتقادات لاذعة لنتنياهو وحكومة الاحتلال، وعدم رغبة نتنياهو في أعقاب رد الحزب بالتصعيد يجعل المُعطيات التي قدمها نصر الله لهجوم حزبه أقرب للتصديق.
ووفقاً للأمين العام لحزب الله، فإن الرد تضمن إطلاق 340 صاروخاً على منشآت عسكرية في شمال فلسطين، وتم استهداف مَنشأتين استراتيجيتين في العمق، وهما مقر الوحدة 8200، وهي جهاز استخباراتي تابع لجيش الاحتلال في موقع بالقرب من تل أبيب، والتي يُعتقد أنها المسؤولة استخباراتياً عن الاغتيال في الضاحية الجنوبية لبيروت، كما تم استهداف قاعدة جوية تدير أنظمة الدفاع الصاروخي تقع في شمال تل أبيب. ووفق تقارير صحافية يُعتقد أن يوسي سارييل قائد وحدة 8200 كان المستهدف من العملية، وهو الذي يقود واحدة من أقوى وكالات المراقبة في العالم. وتمنع الرقابة العسكرية الإسرائيلية نشر أي معلومات حول الموضوع.
وفي ظل رد محسوب بعناية وجه الحزب نيرانه بعيداً عن المدنيين، في رسالة أراد فيها إبعاد المدنيين عن معادلة الصراع. واعتبر أن وضع ذلك المعطى في معادلة الردع من قبل حزب الله إضافة مهمة على المعادلة ورسالة للإسرائيليين قبل أي جهة أخرى، وتعني أن “انضباط حكومتكم تجاه المدنيين اللبنانيين، يعني حماية تلقائية للمدنيين في الشارع الإسرائيلي”. فسعى نصر الله في خطابه في الخامس والعشرين من آب الماضي في أعقاب رد الحزب على اغتيال شكر إلى طمأنة المستمعين إلى أن حرباً أكبر لن تحدث، وأن الناس قادرون على العودة إلى حياتهم الطبيعية، وقد تكون هذه الرسالة موجّهة للمدنيين اللبنانيين وغير اللبنانيين أيضاً.
جاء رد حزب الله مستقلاً عن باقي أطراف التحالف الأخرى، ما يفتح المجال لهجمات تالية، وهو الأمر الذي يعني أن حالة الانتظار والترقب وعدم اليقين لدى حكومة الاحتلال لاتزال مفتوحة.
في رده على اغتيال شكر، يضع نصر الله مرة أخرى قواعد اللعبة بعد أن أعلن انتهاء الهجوم او الرد، والاكتفاء بإطلاق أكثر من 340 قذيفة صاروخية وطائرة مسيّرة. في الأسبوعين اللذين أعقبا جريمة اغتيال شكر في قلب العاصمة بيروت، واصل حزب الله هجماته اليومية في الشمال، ملتزماً بالمعادلات التي وضعها خلال الأشهر العشرة الماضية، والتي وضعها بعد عدوان الاحتلال على غزة، وأدخل الجبهة الشمالية لفلسطين كجبهة مساندة لغزة. وقبل ٧ أكتوبر حافظ حزب الله على معادلة ردع متوازن مع الاحتلال.
اليوم تدخل حروب العصابات ضد الجيوش النظامية المعتدية مستوى جديداً من المواجهة، تتخطى الحدود الماضية، فحرب غزة ولبنان وحتى الضفة الغربية في مواجهة اعتداءات كيان الاحتلال وجرائمه تثبت هذا، فما بين الصواريخ قصيرة المدى ومتوسطة وطويلة المدى، والطائرات بدون طيار، والهجمات الإلكترونية والعمل من داخل الأنفاق تحت الأرض، لا تعطي النصر بالضرورة للقوات العسكرية النظامية الغازية أو المحتلة. إن الضفة هي الخاصرة الرخوة لكيان الاحتلال، وليست وحدها خاصرتها الرخوة، وعلى الاحتلال أن يعي أن لكل فعل رد فعل.
عن صحيفة الايام