– السؤال عن مستقبل المواجهة في المنطقة مشروع في ظلّ خلط الأوراق، الذي يجتاح العديد من ساحات التداخل بين المحورين اللذين يتقابلان منذ مطلع هذا القرن، في أشد مناطق العالم سخونة وتوتراً، محور تقوده واشنطن وتتغيّر بسيولة قواه الإقليمية والمحلية بحسب مقتضيات التقدم والتراجع، لكن بقيت السعودية وتركيا دائماً ركيزتاه الثابتتين، ومحور عموده الفقري فكرة جامعة هي مقاومة مشروع الهيمنة الأميركية، تنتظم خلفها قوى وحكومات ودول بدرجات تتفاوت بحسب نسبة الإرادة الوطنية الاستقلالية ومصادر القوة و الشعور بدرجة التعرض للاستهداف، لكن بقي دائماً تحت مظلة روسية صينية تتسع وتضيق، وفي قلبه سورية وإيران.
– سقطت الحلقات المتتالية للغزوات العسكرية المجردة بهدف الإخضاع والتهشيم والسحق على غرار الحملات التقليدية للغزوات الإمبراطورية، فسقطت حرب أفغانستان ومن بعدها العراق وبعدهما عدوان تموز 2006 على لبنان وحربي 2008 و2011 على غزة وبقيت إرادة المقاومة حية، وسقطت محاولة تنصيب الإسلام السياسي ممثلاً بتنظيم الإخوان المسلمين بعباءة تركية قطرية باسم ثورات الشعوب في قلب مسمى الربيع العربي، وسقطت حرب إخضاع سورية أو احتلالها على يد ميليشيات القاعدة بمفرداتها المختلفة.
– المشهد اليوم هو تنامي دور مصري ثالث قائم على العودة لمفهوم الدولة التقليدية لما قبل العاصفة واعتماد الجيش أساساً صلباً لها، وفي قلب علاقات إقليمية ودولية تتواءم مع الحلف الأميركي السعودي، لكنها لا تستثمر وتتورط في حروبهما التي لم تنته، وتبدو مصر ومعها الجزائر عنوان هذا المشروع الثالثي لإعادة الاستقرار إلى شمال أفريقيا بعد رياح الخماسين التي سمّيت ربيعاً ذات يوم، وحيث مخاطر الهجرة الأفريقية المليونية نحو أوروبا إذا تواصلت حالة الفوضى، وحيث القاعدة تتجذر في ليبيا، وتونس تتحلل نحو تفكك الدولة من دون الوقوع في الحرب الأهلية.
– تأمين ميمنة الغرب الوافد إلى الشرق من البحر الأبيض المتوسط، تعني أن الاشتباك في قلب ساحة الحرب الرئيسية لا يزال في الذروة بل هو بانتظار المزيد من المفاجآت الساخنة، والواضح أن ساحة الحرب لا تزال بلاد الشام من لبنان إلى سورية فالعراق، وتركت الميسرة الممتدة من تركيا وصولاً إلى أوكرانيا مفتوحة على تلقي التداعيات والتفاعلات، بينما الميمنة ليست ساحة اشتباك في العنوانين الرئيسيين للمواجهة وهما إعادة قسمة الثروات والأدوار في سوق الطاقة، ورسم التوازن بين الحلف الغربي الإسرائيلي من جهة والمقاومة وامتداداتها من جهة أخرى، فسوق الطاقة في أفريقيا بعيد عن الأدوار الإستراتيجية الكبرى بحجمه وبعيد عن التنافس بهوية المتحكمين فيه، وفكرة المقاومة في أفريقيا في حال كمون أو خمود، ومشاكل وهموم أفريقيا لا تتعدى ضمان الأمن لخط الساحل مع أوروبا، وضمان الاستقرار منعاً للمفاجآت غير السارة وتأمين الضبط والسيطرة لحركة مكونات القاعدة.
– الميسرة من تركيا إلى روسيا شريك عضوي كامل في تفاعلات سوق النفط والغاز، ففي أوكرانيا عقدة الأنابيب التي تؤمن الغاز الروسي إلى أوروبا، وتركيا عقدة وصل الأنابيب الآتية من كازاخستان إلى البحر المتوسط فأوروبا، وفي شمال الميسرة وأقصاها تقف روسيا القوة العظمى الناهضة لدور عالمي، لا يستقيم بلا التقدم نحو القلب الذي تشكله دول غرب المتوسط أو بلاد الشام وصولاً إلى إيران، ولا يكتمل بلا حماية سياسية عسكرية لخط أنابيبها الذي يمتد نزولاً في أقصى الشرق جنوباً نحو الصين، وفي أقصى الغرب نحو أوروبا، وينتظر الفرصة المناسبة للمرور في الوسط نحو البحر الأحمر وممره الإجباري من سورية.
– هنا القلب، قلب العالم، سورية وبعدها العراق وبعدهما إيران، فمن سورية خط أنابيب قطر تركيا لتأمين أوروبا بالبديل عن الغاز الروسي، ومن سورية خط أنابيب إيران والعراق نحو أوروبا لتدعيم التحالف مع روسيا والتناوب في السوق على إدارة المصالح، وعبر سورية خط الأنابيب الآتي من مصر مروراً بالأردن محملاً بالغاز المصري وما تسلبه إسرائيل مستقبلاً من الحقول الفلسطينية وعبر سورية يصل أولاً لتركيا فأوروبا، ومن سورية خط الأنابيب الروسي إلى البحر الأحمر، أربع شبكات عملاقة تتصارع وخلفها تقف أكثر من نصف دول العالم.
– الحرب على سورية ومعها وفيها حسمت وجهتها، وصار ثابتاً أن الحلف الذي تقوده واشنطن قد فشل في تحقيق أهدافه بعد بلوغه مرحلة استقدام الأساطيل واستخدام القاعدة، والواضح أيضاً أن وضع إيران على لائحة الاستهداف قد صار من الماضي من الزاويتين العسكرية والإستراتيجية، وأن التسليم بالتفاوض طريقاً أحادياً للتفاهمات الكبرى على المصالح والأحجام والأدوار قد حسم.
– الانتقال من حروب الإلغاء إلى حروب المفاوضات يختصر تقديم ذروة حضور القاعدة في العراق، حيث التفاوض يجب أن يجري على كيفية مواجهة عدو مشترك في ساحة مشتركة يملك كل الأطراف فيها قدرة تأثير وتقرر المساهمات النصيب في الأدوار، وهذا يعني أن سورية، بمنظور مستقبل دور داعش ليست إلا حيزاً جانبياً ولا رغبة أميركية ولا سعودية ولا تركية بالتورط فيها، فرأس داعش عراقي تنتهي هناك فتسقط في سورية، أطلقت الحرب بالإفراج عن داعش ومشروعها الطموح، والمعضلات المطروحة الآن تفاوضياً بالتوجه الأميركي نحو إيران، وفقاً للمعادلة التالية، ها هي داعش تقطع اتصالكم بسورية ووصلكم للمتوسط، وها هي سورية على رغم قوتها تواجه معارضة على رغم عدم ثقتنا بقدراتها سنواصل دعمها، ولبنان منهك ومنهمك بأحواله معلق على انتظارات الفراغ، وحليفكم العراقي عاجز عن إحداث اختراق يغير المعادلات من حول داعش من دون شراكة مع السعودية وتركيا، والأكراد يرتفع سقف طموحهم بدولة مستقلة كلما طالت أزمة داعش، فإن كنتم تسلمون بالحاجة لتركيا والسعودية فتفاوضوا ونحن نؤيد ما تصلون إليه، ولو اتصل بسورية ولبنان إضافة للعراق ولو طال معهم اليمن والبحرين.
– إذن تقرر مستقبل المعادلات الكبرى وبقيت تفاصيل المعادلات الإقليمية الأقل أهمية لكن الأشد خطورة وسخونة، فمثلما في حمص تقرر وحسم مستقبل أنابيب النفط العالمية الكبرى، فإن الأنبار تقرر مستقبل أنابيب النفط الإقليمية والعراقية، نفط البصرة بانياس مقابل كركوك حيفا.
– الانحباس في الحلول والتنامي في فلتان الإرباك والاستنزاف سيتواصل إذن في لبنان وسورية كي تملك لغة التفاوض مصداقيتها، والتعقيد العراقي سيرتفع منسوبه، وعلى إيران وحليفها العراقي، وحلفائهما في سورية والمقاومة ابتداع معادلة جديدة تخفض سقوف التطلعات التفاوضية للثنائي التركي السعودي، والطمع الكردي والعنجهية الداعشة والأحلام الأمنية والنفطية الإسرائيلية، والمدخل هو عمل عسكري موضعي نوعي، وعمل سياسي يغيران قواعد اللعبة.
– هل تظهير خطر اللعبة الداعشية التقسيمي وامتداداته نحو تقسيم السعودية وتركيا سيحمل إرهاصات التعبير القريب، فينتج توازن رعب التقسيم معادلة تفاوض متوازن؟
– هل يكون التقدم نحو خطوة اتحادية بين سورية والعراق هو الرد الذي يغير المعادلة ويضع الطمأنينة التي يقدمها موقع سورية نحو الفئات الغاضبة من الحكومة في العراق استثماراً جديداً في المعادلة فترعى سورية حواراً عراقياً بين الحكومة ومعارضيها، وتتساند الجيوش والحكومات مالاً وسلاحاً وسياسة، فينقلب سحر العبث بالحدود على السحرة؟
عن البناء اللبنانية