عرسال، وادي البقاع الشمالي، لبنان– ما تزال شاحنة خالد حميّد الصغيرة من نوع نيسان (بك أب) التي نالها الرصاص واقفة على جانب الطريق، حيث قتل المسلح اللبناني البالغ من العمر 43 عاماً بصلية من نيران الجيش اللبناني قبل أسبوعين. وقد ألقى مقتله في ظروف ما تزال مثار جدل، مع مقتل جنديين لبنانيين على الأقل على يد سكان ساخطين بهدف الانتقام، فيضاً من الضوء على بلدة عرسال الواقعة في شمالي وادي البقاع، موطن 48.000 من السكان السنّة، ومصدر دعم لوجستي مهم للثوار السوريين الذين يقاتلون نظام الرئيس بشار الأسد قبالة الحدود.
وعلى الرغم من أن الحكومة اللبنانية تبنت سياسة النأي بالنفس عن الحرب الجارية في الجارة سورية، فإنها غير قادرة على منع تسلل الصراع من عبور الحدود، والذي تحركه الفصائل اللبنانية السنية والشيعية المتنافسة التي ألقت ببيضها في سلة النظام السوري وفي سلة قوات المعارضة السورية على التوالي. وفي ضوء الديمغرافيات الطائفية المتشابكة وتصاعد وتيرة العداوة بين السنة والشيعة، يشكل لبنان حقل ألغام لنقاط احتكاك محتملة. لكن القليل ينطوي على هذا القدر الكبير من احتمال اندلاع عنف خطير مثلما هو الحال في منطقة سهل البقاع الشمالي.
وتجلس عرسال، المحشورة داخل جيب جبلي في شمال شرق لبنان، على مقربة من الحدود، في مركز انقسامات سنية وشيعية حول الصراع في سورية. ويستخدم الثوار السوريون والمتطوعون اللبنانيون السنة الجبال القاحلة والوعرة إلى الشمال والشرق من عرسال لتهريب الأسلحة والذخائر إلى داخل سورية، ولنقل المصابين من جبهات المعارك إلى المستشفيات اللبنانية. وفي العام الماضي، قصفت الطائرات السورية الشريط الجبلي إلى الشرق من عرسال، كما قام الجنود السوريون بعدة توغلات لاعتراض الثوار الذين يجتازون الحدود.
ومن جهتها، وصفت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” عرسال مؤخراً بأنها “منتجة للإرهاب الذي يستهدف الشعب السوري يومياً”. وحثت الحكومة اللبنانية على اتخاذ إجراءات حاسمة ضد البلدة، محذرة من أن “التغطية على الإرهابيين هي جريمة ستنعكس سلباً على كل من لبنان وسورية”.
ومنذ مقتل حميد، انتشرت قوات من كتيبة الهجوم الجوي النخبوية في لبنان حول عرسال، ونصبت نقطة تفتيش على الطريق الوحيد المسفلت المفضي إلى البلدة، وفتشت السيارات ودققت في الهويات. وتقوم قوات أخرى بتسيير دوريات في الجبال المحيطة، عازلة عرسال، من ناحية فعلية، عن الحرب السورية.
ويقول أحمد، وهو طالب قانون سابق من بلدة قصير، والذي كان قد انضم إلى الجيش السوري الحر قبل ثمانية أشهر: “إنها صفعة قوية للجيش السوري الحر، لأن ذلك هو المكان الذي نحصل منه على مقاتلينا وأسلحتنا وذخائرنا وطعامنا وكل شيء”. وكان يتحدث لمجلة “تايم” في بيت آمن في قرية بالقرب من عرسال.
ويقول سكان محليون إن حميد كان عضواً ناشطاً في الجيش السوري الحر، وأنه استهدف عن عمد من جانب وحدة من المخابرات العسكرية اللبنانية. ويقول عبد الله حميّد، والد خالد الذي كان جالساً في خيمة للعزاء خارج منزل نجله البسيط: “لقد كان موته اغتيالاً”.
ويقول سكان إن حميّد كان في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة عندما اعترض سيارته عملاء من جهاز المخابرات العسكرية. وبعد قتله، سحب الجنود جثة حميد من السيارة واتجهوا جنوباً خارج البلدة على طول مسار متسخ قبل أن يضلوا الطريق وقعوا في منزلقات ثلجية. وقد طاردهم رجال مسلحون من عرسال، وعندما وصلوا طوقوا وحدة الجيش وفتحوا نيران أسلحتهم عليها، ما أفضى إلى مقتل جنديين على الأقل وجرح مجموعة آخرين.
ومن جهته، قال الجيش اللبناني إن حميد كان إرهابياً مطلوباً، وأنه قتل عندما كان يقاوم اعتقاله. وتطالب الحكومة اللبنانية والجيش بتسليم الرجال المسلحين الذين هاجموا الجنود. لكن السكان في عرسال يطالبون بإجراء تحقيق مستقل في مقتل حميد الذي يدعون بأنه كان “عملية إعدام”.
وما يزال الجيش يجد نفسه في وضع صعب. فالمحافظة على قبضة مشددة على عرسال سيغرّب السكان أكثر، وسيعمق الاتهامات بأن الحكومة تعمل في خدمة مصالح نظام الرئيس الأسد من خلال إخضاع البلدة للضغط والتشديد المستمرين. وكان علي هوجري، عمدة عرسال المحارب، قد كسب دعماً واسعاً من العديد من الزعماء السنة في لبنان، الذين يتعاطفون مع مساعدة البلدة للثوار السوريين. لكن في حال أعاد الجيش الانتشار والخروج من عرسال قبل أن يسلم السكان المشتبه في قتلهم الجنود اللبنانيين، فإنه سيخاطر بإضعاف صورة مؤسسة يعتبرها العديد من اللبنانيين ضامن الاستقرار الداخلي في البلاد. ويسود الاعتقاد بأن السنة يشكلون الأغلبية في الصفوف الدنيا من الجيش، وهو ما يشكل اختباراً لوحدة الجيش في حال استمرار الاشتباكات مع المتشددين اللبنانيين السنة.
وبعد حادثة مقتل حميّد، حذر العماد جان قهوجي، قائد الجيش اللبناني، من أنه لن تكون هناك “صفقات سرية” أو تسويات على حساب الجنود القتلى. وعلى الرغم من ذلك، من المرجح التوصل في نهاية المطاف إلى تسوية لتخفيف حالات التوتر في البلدة، خاصة في ضوء الوضع الأمني فائق الحساسية في وادي البقاع الشمالي.
على بعد بضعة أميال إلى الشمال الغربي من عرسال على الجانب الآخر من وادي البقاع، تقع بلدة الهرمل وعدد من القرى التي يسكنها الشيعة بشكل أساسي، وحيث يتمتع حزب الله المتشدد والمدعوم من إيران بتواجد قوي. وحزب الله حليف قوي لنظام الأسد، وكان قد دفع بمقاتلين عركهم القتال ليجتازوا الحدود، حيث يقومون بمساعدة القوات السورية التي تقاتل ثوار الجيش السوري الحر، ومن بينهم متطوعون لبنانيون سنة من عرسال، في محيط بلدة قصير التي تقع على بعد خمسة أميال إلى الشمال من الجبهة. وقد تميز القتال هنا بأنه ما يزال عنيفاً منذ شهور وغالباً ما تُسمع أصوات القذائف المدفعية والضربات الجوية ونيران الأسلحة الرشاشة من داخل لبنان. وقد قلل حزب الله من شأن دوره في سورية، بالرغم من أنه أصبح من الدارج الحديث عن وجود مقاتلين خارجيين يساعدون في الدفاع عن نظام الأسد. وفي نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي، قتل علي ناصيف، القائد المخضرم في حزب الله المعروف باسمه الحربي، أبو العباس، بالقرب من قصير في حادث أجبر زعيم الحزب، حسن نصر الله، على الاعتراف بأن بعضاً من رجاله كانوا يعملون خلف الحدود -ولو أنهم قليلون- للدفاع عن عدة قرى داخل سورية يسكنها لبنانيون شيعة (تجدر الإشارة إلى أن هناك تداخلاً وتشابكاً بين القرى اللبنانية والسورية في المناطق الشمالية من لبنان، بحيث تجد نفسك في قرية سورية وأنت ما تزال في داخل الأراضي اللبنانية، وفق تقسيم اتفاقية سايكس بيكو).
وقال عدنان، القائد المحلي للجيش السوري الحر في بلدة زرعا إلى الشمال من قصير إنه “وفي أعقاب مقتل أبو العباس، جن جنون حزب الله ودخل المعركة بكل قوته”. وأضاف: “إن الجيش السوري وحزب الله طوقوا زرعا وقصفونا لمدة ثلاثة أيام بالصواريخ والهاون والدبابات”. وقال عدنان إنه أجبر ومعه القرويون الآخرون على الهرب من زرعا والسير على الأقدام لمدة 12 ساعة عبر الجبال للوصول إلى المنطقة الآمنة في عرسال.
وللآن، قصر حزب الله ومتطوعو الجيش السوري الحر معاركهم على الأراضي السورية المقابلة للحدود وحسب. ويبدو أن كلا الجانبين يقدران فداحة السماح للحرب في سورية بالانسياب إلى وادي البقاع الشمالي. وقال أبو علي، المؤيد لحزب الله من قرية قصير الحدودية الشيعية: “إننا في الوضع الدفاعي، لكنه إذا هاجمنا السنة هنا (في قصير) فسوف نهاجمهم هناك (في عرسال)”.
وفي الأثناء، يبدي العديد من الشيعة في لبنان توجساً من صعود المجموعات الجهادية السنية في سورية، مثل جبهة النصرة، وهي واحدة من أقدر المجموعات المقاتلة في المعارضة السورية، لكنها مصنفة على أنها تنظيم إرهابي من جانب الولايات المتحدة. وقد يكون لتلك المخاوف ما يبرره من الأسس الوجيهة. واعترف أحمد، مقاتل الجيش السوري الحر من قصير، بأن البعض في داخل صفوف المعارضة السورية يوجهون أنظارهم إلى حزب الله بعد أن يسقط نظام الأسد. وقال: “ثمة حديث داخل الجيش السوري الحر بأنه متى ما تم التخلص من النظام في سورية، فإننا سننظف لبنان (من حزب الله).
ووفق ثوار الجيش السوري الحر، يبدو أن حزب الله قد استفاد من حملة الجيش اللبناني على عرسال لتمرير مقاتلين إلى الجبال بين البلدة والحدود للعمل كقوة بوليس ضد الثوار المتسللين. وقال عدنان:”لقد أقاموا مواقع ونصبوا نقاطا للكمائن لوقفنا عن استخدام الجبال”. وأضاف: “لقد أصبحت الأوضاع خطيرة جداً. فنحن نستطيع تفادي الجيش اللبناني، لكننا لا نستطيع فعل ذلك مع حزب الله. إنهم قساة جداً ونحن نخشاهم”.
وعلى بعد بضعة أميال إلى الشمال من عرسال على أطراف القرية المسيحية قاع، ثمة تلة صغيرة تقيم على سفوح جبال شاهقة لها لون بني داكن تبرز في الشرق. وعلى قمة التلة، ثمة تمثال للعذراء مريم، وهو وجهة شعبية للمسيحيين المحليين من أجل إضاءة الشموع والصلاة والتمتع بالمشاهد الخلابة إلى الشمال والممتدة أسفل السهل الزراعي “مشاريع القاع”، فوق الحدود إلى قصير ووراءً إلى حمص، ثالث أكبر مدينة سورية، والتي تظهر للعين على بعد أكثر من 20 ميلاً مثل وميض أبيض يتلألأ وسط الضباب المغبر.
ولم تكن مجلة “تايم” الوحيدة التي تطالع هذا المشهد من هناك. كان أيضاً شابان ملتحيان يرتديان سروالين أسودين وسترتين سميكتين وقبعتين تغطيان الرأس لمقاومة لسع الهواء القارس، يمسحان بأنظارهما الجبال إلى الشرق والسهل إلى الشمال. ووقف بالقرب منهما حشد من الدراجات الهوائية على جانب الطريق. وقد دل مظهرهما ووسيلة النقل وصمتهما على أنهما من رجال حزب الله، على افتراض أنهما كانا يراقبان الحركة في الجبال المجاورة. وكان تواجد رجال حزب الله في هذه الجبال التي تطل على مشاريع القاع في بال أحمد، مقاتل الجيش السوري الحر من القصير، حيث أمضى تسع ساعات قبل أسبوع من ذلك وهو يزحف عبر الحدود إلى داخل لبنان. وقال: “إننا نعاني لأنه تم إخراج عرسال من المعادلة. كما أن مشاريع القاع، الطريق الوحيدة المتاحة، تخضع راهناً لمراقبة وثيقة من جانب حزب الله”.
وفي الأثناء، لا يظهر مواطنو عرسال أي أمارات على أنهم يتوانون في تقديم المساعدة للثوار السوريين، بغض النظر عن أي إجراءات قد تتخذ من جانب الجيش اللبناني والحكومة. لكنه إذا كان مقاتلو حزب الله متهيئين راهناً لاعتراض ثوار الجيش السوري الحر ومنعهم من اجتياز الحدود، فإن من الممكن أن يصبح البقاع الشمالي امتداداً نشطاً للحرب في سورية، في القريب العاجل.
(مجلة تايم( ترجمة: عبد الرحمن الحسيني الغد الاردنية .
نشر هذا التقرير تحت عنوان:
Syria’s Proxy Wars: In Lebanon’s Bekaa Valley, the Specter of Conflict Looms