تكشف أنشطة المصالحة الفلسطينية أنّ جزءا كبيرا مما يجري ليس استعدادا لإنجاز المصالحة، بل ربما يكون “تطبيعا” بين الفلسطينيين، تمهيدا للمصالحة في زمن آت؛ أو ربما، للأسف، انجرارا بدون وعي نحو عملية “إدارة الانقسام” بدل المصالحة الفعلية، وفي أحسن الأحول توقع أنّ هناك “مصالحات” متتابعة ستأخذ زمناً.
يبدو أنّ الوساطة وعمليات “التسهيل” و”التيسير” للمصالحة بين حركتي “فتح” و”حماس” باتت تتمأسس. فمثلا، تشير الصحف إلى بدء “تجمع الشخصيات الفلسطينية المستقلة سلسلة من الزيارات لقيادات الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية لبحث آليات تنفيذ اتفاق المصالحة، وتوحيد كل الجهود الوطنية نحو ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي وإنهاء الانقسام”. وتوجد الآن “لجنة شرعية” في التجمع، من بين مهامها “زياراتها للعائلات الفلسطينية في محافظات الوطن، للتأكيد على أهمية نشر ثقافة المصالحة والوحدة بين الأهالي”. وقد جرى تشكيل لجان مختلفة منبثقة عن التجمع، يمكن أن تصبح لجان حزب أو تجمع أو جبهة.. إلخ، ولكن الأكيد أنها تعني توقعا بأنّ الدرب ما يزال طويلا، ويحتاج تخصصا وتخطيطا!
وتجري الآن متابعة اللجان المختلفة لقضايا مثل منح جوازات السفر، والاستدعاءات الأمنية، وحرية العمل السياسي، وحرية التنقل، وطبع وتوزيع الصحف بين الضفة والقطاع. ومثل هذه الأجندة لا تتسق مع فكرة أنّ المرحلة هي مرحلة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ستقوم بتولي الشأن كاملا وتنظم كل شيء، وتجري انتخابات؛ إلا إذا كان الوسطاء في موضوع المصالحة باتوا يعملون بأسلوب: اعمل لزمن الانقسام كأنه يعيش أبدا، واعمل للمصالحة كأنها تأتي غدا؛ أو توقعا بأن الحكومة المقبلة لن تحل شيئا، ولن تنهي الانقسام.
بطبيعة الحال، فإنّ منطقا آخر قد يقول إنّ المصالحة لن تتحقق حتى بانتخابات وحكومة ورئيس جديدين؛ إذ إنّ التداعيات الاجتماعية والعائلية للمصالحة عميقة، وتحتاج إلى العمل في مراحل ما بعد المصالحة التي ستحتاج إلى صيانة أيضا ومتابعة، وتحتاج إلى نشر ثقافة اللاعنف في تسوية الشؤون الداخلية. ولكن هذا يعني فيما يعني أنّ الطموح بنشوء مجتمع وسلطة قانون يبتعد أكثر، وتوقع أنّ دولة وسلطة وفصائل يمكن أن تفرض أمنا اجتماعيا أمر مستبعد.
في السودان، واليمن، ولبنان، والعراق، وفلسطين، وغيرها هناك جمعيات تعيش على تمويل أجنبي غربي بهدف إقامة محاكم بديلة (عشائرية مثلا). وهناك ورش عمل تسمى “تعليم السلام”. وهناك الكثير من الأنشطة التي تجرى تحت مسمى “الحلول البديلة للصراعات”، ويدافع المنافحون عن هذه الأنشطة بأنّ الغرب والولايات المتحدة، فيه هذا النمط من أنماط حل الصراعات. والواقع أنّ هناك فرقا؛ فالرسالة الحقيقية هي أنّ الدولة غائبة في الدول العربية التي تشهد مثل هذه الأنشطة، والمطلوب منع أخذ الحقوق باليد ووقف الدم. أما في الغرب، فإن المقصود هو اختصار الوقت والتكاليف القضائية. وفي السياق الفلسطيني، ونحن هنا لا نتحدث عن الجمعيات الأجنبية، فإن الجهد المحلي، رغم حسن النوايا وأهمية الجهد، يتضمن رسالة بأنّنا نتحدث عن واقع سيطول، وأنّ التفاؤل بأنّ المتصارعين لديهم القدرة على حفظ السلام والأمن محدود.
في الواقع أنّ العمل على أنّ المصالحة أمرها قد يطول شيء يمكن أن يكون تصورا واقعيا ومنطقيا. فمثلا، في دعوتي في مقال أمس لتفعيل الاتحادات الشعبية والنقابية الفلسطينية، حتى قبل إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، لم يكن الهدف الاستغناء عن جهود إحياء المنظمة، بل التحسب لسيناريو لا يتحقق فيه ذلك في المدى المنظور. وبالمثل، فإن مبادرات مثل مبادرة “باب الشمس”، والقرى اللاحقة، على الأراضي المصادرة، هي نوع من انتهاج مقاومة شعبية بعيدا عن عجز الفصائل الأساسية عن تطوير استراتيجية مقاومة.
مأسسة المصالحة، وتطوير لجان ستعمل لأمد طويل، وقد تتحول هي ذاتها إلى أحزاب ومنظمات، هي رسالة سلبية بشأن بعد المصالحة، رغم إيجابية النوايا والأهداف. وفي الوقت ذاته، يجب أن يدرك المتصارعون، والقوى التي تعجز عن الإصلاح، أنّ الزمن لا يلعب لصالحها، ولا يتوقف عندها. فالشعب عندما يمل منها ومن إنهائها خلافاتها سينسحب تدريجيا من تحت عباءتها ويشكل أطره الجديدة.
الغد الاردنية.