منذ وطأت قدماي ، ارض غزة في العام 1994 ، رحت اتحسس دفء المكان الذي ولدت فيه ، والذي ابعدت عنه ، والذي حلمت بالعودة اليه ، فعشت اسابيع ، وربما اكثر وانا في حالة من النشوة ، التي تحاول التأكد من صحة الواقع ، وانه ليس مجرد حلم .
نعم لقد كان واقعا جميلا ، رغم ما انتابه فيما بعد ، من نكوص الى الالم ، الذي صنعناه بايدينا .
غزة تحتل في وجداني ، حيزا كبيرا ، وصورة مشرقة للمكان ، واهله ، الذين هم اهلي .
ولذلك كنت في لهفة الى التعرف ، على تفاصيل المدينة الصغيرة ، وعلى اهلها بكل مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية.
في تلك الفترة تعرفت على الرجل الفاضل ، المربي و المؤرخ والعاشق الولهان ، لتاريخ فلسطين وغزة على وجه الخصوص ، نعم في تلك الفترة تعرفت على الاستاذ : سليم عرفات المبيض ، والذي اخذني الى تفاصيل التفاصيل الحاضرة والغائبة ، من تاريخ المدينة والذي رأيته بالعين المجردة ، والذي لم اره ، بفعل الاهمال المؤسساتي ، وفعل التشويه الاحتلالي ، لحيثيات تاريخية تؤكد عراقة هذه المدينة ودورها العابر للازمنة ,أراني اياه بقلبه وسرده الشيق عن المدينة وتاريخها,عاداتها وتقاليدها,تراثها المتعدد: امثلة وازياء وقيم..الخ
سليم المبيض الذي عرفته في اوائل العام 1995 من خلال ندوة ثقافية في جمعية الشبان المسيحية لم يتغير, وهو يكاد ينهي عقده السابع ، اطال الله في عمره ، فقد عرفته دؤوبا وشغوفا بالتسجيل والتحليل و البحث والتقصي ، عن كل شيء ذي صلة بتاريخ وتراث فلسطين .
وغزة مدينته التي عاش فيها ، وقاوم كل اسباب الهجرة منها ، ليبني اجيالا ، تعرف قيمة الوطن وتاريخه .
منذ عرفت سليم المبيض ، وهو يعمل بجهد فردي ، خلاق ، ويتصدى لمشاريع ثقافية وتاريخية تستحق الاهتمام والعناية من مؤسساتنا الوطنية ، ولكن لان المؤسسة عنا ، لا تولي الجوانب الثقافية سوى بعض الكسور العشرية ، من ميزانياتها ، فدائما كان المبيض ،بجهده الفردي يتصدى لهذه القضايا التي تؤرقه بفعل الحمية الوطنية والثقافية ، ودائما يباغتنا بالجديد والجميل ، فعندما تذهب الى بيته وتنظر الى الملفات الملقات على هذه الكنبة او تلك ، ستعرف تماما ان هذا الجهد الكبير ، هو جهد مؤسسه ، ويحتاج الى مؤسسة حقيقية ، للعمل على اخراج هذا الجهد ، الى حيز النور ، ولكن الفرد المؤمن بدوره ، وبقدراته وبشغفه لمهنته وادواته الخلاقة ، يستطيع فعل ، ما تعجز المؤسسة عنه ، او تتعاجز .
ما يقودني اليوم للحديث عن اخي وصديقي الكبير الاستاذ سليم المبيض ، هو دين للمبيض على كل مثقف فلسطيني ، لابد من دفعه ، والاقرار بدور هذا الفرد الرائع ، اضافة الى انني منذ يومين كنت بضيافته ، وباغتني باهداء كتابه الجديد”مكتبة الجامع العمري” ، الذي يصدره بالاشتراك مع الاستاذ / محمد خالد كلاب ، وهذه المرة الاولى ، الذي يقبل سليم المبيض الاشتراك مع اخرين بالعمل والجهد البحثي ، ولكن اعتقد ان ذلك لم يحدث لولا ايمانه بقدرة واهمية هذا الاشتراك .
كتابه الجديد ” مكتبة الجامع العمري الكبير ” اصدرته دار اروقه في عمان وقد جاء الكتاب في/ 140 /صفحة من القطع الكبير وبطباعة انيقة تليق بالكاتب والمكتوب عنه .
وقد ضم الكتاب بين دفينه مدخلا ، لاهم المكتبات في المدن الفلسطينية وعلى راسها القدس ويافا ونابلس .. الخ
وصولا الى الحديث والتفصيل عن مكتبة الجامع العمري ، حيث يعرف بنشأتها وبعض تاريخها ومخطوطاتها ، اضافة الى جهود مؤرخ غزة ” عثمان الطباع ” رحمه الله في اعمارها وهو بذلك يفتح الضوء على المساحةالمعتمة بفعل الاهمال ، ليقول لنا : انتبهوا هنا توجد مكتبة عريقة ، ساهم ذات يوم بتاريخها ، اشهر العلماء والاعيان ، ولمن لا يعرف تاريخ هذا الجامع ، يسرد المبيض وشريكه كلاب : التاريخ العتيق للجامع ، الذي كان منذالعقود الوثنية معبدا ، ثم تحول الى كنيسة عند دخول المسيحية الى غزة ، ثم تحويله من اهالي المدينة الى مسجد زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، واطلقوا عليه اسم الجامع العمري نسبة الى عمر .
وهذا الكتاب كما يقول المبيض وشريكه كلاب : هو محاولة للوفاء لهذا التاريخ العريق وللشيخ الطباع ” رحمه الله ” والذي ساهم في اعادة تأسيسها واعمارها .
وهذا المقال محاولة ايضا,للوفاء لدور وجهد الاستاذ/سليم/وتقديرا لهذا الكتاب الذي يستحق الاهتمام والاطلاع عليه.