عند سواحل بحر الشمال التي تطلّ على تخوم العاصمة أوسلو كان الثلج والضباب يخيمان على المدينة ،كنتُ أمشي لوحدي متأملاً البحر وفناراته المشتعلة على طول الشتاء وتذكرت الأيام الأخيرة من كل سنة التي يصادف فيها ذكرى رحيل شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب فقفزت أمامي قصيدة السياب ( حفار القبور ) وبدأت بقراءتها وقبل أن أنتهي منها أحسست انني أتجول في كورنيش البصرة قريباً من تمثال السياب لا في سواحل أوسلو الباردة ، شعور غريب أدخلنني في سعادة غامرة ولكن للحظات ليكن كذلك وما أجمله ..
لقد إتسمت رحلة حياة الشاعر بدر شاكر السياب بالكفاح والعطاء الأدبي ووضعته في طليعة رواد حركة الشعر العربي الحر . ويعد السياب من أوائل الشعراء العرب الذين جددوا في الشعر العربي وأغنوا القصيدة العربية الحديثة مع نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدر وآخرين . ومثلت حياته الغنية بالألم والعوز والغربة والفراق قمة المعاناة والمأساة الدرامية وقد عبر عنها الناقد الراحل جبرا ابراهيم جبرا بقوله :
( لقد كان في حياة السياب من الدراما شيء كثير ، صباه في جيكور ، فقره ، سياساته ، اعتقالاته ، خيباته ، عذابه الأبوي الأخير ) .
كانت قصائد السياب كلها تؤخذ كمأساة درامية متكاملة ، تنمو وتتصاعد نحو ذروة من ذرى التجربة الإنسانية الرامزة الى الحياة البشرية . إن السياب مفعم بالأحداث ، وقد أكد على أن حركة الشعر الحر أكثر من مجرد اصطلاح عروضي ، وكتب في عام 1954 قائلاً :
( أن الشعر الحر على اختلاف عدد التفعيلات المتشابهه بين بيت شعري وآخر ، أنه بناء فني جديد ، وإتجاه واقعي جديد جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العاجية وجمود الكلاسيكية ) .
في عام 1926 ولد الشاعر بدر شاكر السياب في قرية صغيرة من قرى البصرة هي قرية “جيكور” التي تعد أشهر قرية في الأدب العربي الحديث ، وقد تغنى بها الشاعر وبجدولها الصغير ( بويب ) المتفرع من شط العرب ، ووصفها بأنها جنة ذات نخيل . وهو الأبن الأول لعائلة تمتلك أراضي مزروعة بالنخيل وتحيا حياة لائقة .كانت طفولته سعيدة في دار جده والتي تقع على جدول بويب ،كان السياب يحب مراقبة السفن والمراكب وهي تصعد الى البصرة أو تنحدر الى الخليج العربي ، وتركت حكايات جدته إنطباعات عميقة الأثر في شعره . وفي المدرسة المحمودية بأبي الخصيب أكمل السياب دراسته الإبتدائية وعرفت شناشيلها ذات النوافذ الزجاجية الملونة والمزينة بالخشب المحفور بالزخارف العربية ، ثم أنهى دراسته الثانوية في مدرسة البصرة وكان من الطلاب المتفوقين وتعد قصيدته “على الشاطيء” من أقدم قصائده المخطوطة التي عبر فيها عن أساه العميق لضياع الأحلام في قصة حب مطوية ، بعدها إلتحق السياب بدار المعلمين العالية في بغداد ودرس اللغة الانكليزية وبدأ نبوغه يظهر في بغداد ، وقد تأثر بالأدب الأوروبي وكان بودلير أول شاعر غربي يتعرف على شعره من خلال ديوانه ( أزهار الشر ) كما كان الشعراء الرومانسيون الانكليز من مصادر إلهامه .، ثم لاحقته لعنة المرض حيث بقي أواخر حياته يتنقل من مشفى الى آخر حتى إختطفه الموت في 24/12/1964 . ورغم أن حياته لم تمتد طويلاً إلا أنه ترك وراءه ثروة شعرية أحدثت انعطافاً كبيراً في مسار القصيدة العربية .. كتب عن السياب الكثير من الدراسات والأطروحات في الدراسات العليا وترجمت قصائده الى الكثير من اللغات العالمية . في قصيدته حفار القبور والتي هي ضمن مجموعته الشعرية الخالدة ( انشودة المطر ) يصور السياب القبور وحفارها وكأننا نرى مشاهد سينمائية غاية في الروعة ، فضوء الأصيل الذي يغيّم كحلم كئيب على قبور الموتى ، بينما حفار القبور يتابع خطابه الذاتي عن حالته البائسة ، حفار متعثر في خطواته يحفر القبر على ضوء خافت ، الظلام ينطبق على الأفق فيصور الشاعر المشهد باسراب الطيور التي تشبه العاصفات السود أو مثل الأشباح في بيت قديم خرجت لترعب السكان ..
قد يكون السياب في قصيدته حفار القبور أكثر تشاؤما من قصائد يتعالى فيها هاجس الموت والخوف من المجهول ولكن ليس بمستوى هذه القصيدة التي يردد فيها حفار القبور قوله بظهور ميت جديد وذهابه الى المبغى ، يقول الشاعر بدر شاكر السياب في مقطع من قصيدته حفار القبور :
ضوءْ الأصيل يغيم ،
كالحلم الكئيب ,
على القبور
وآهٍ , كما أبتسم اليتامى ،
أو كما بهتتْ شموعْ
في غيهب الذكرى يٌهومَّ ظلٌّهنَّ على دموعْ
والمدرجٌ النائي تهبّ عليه أسراب الطيورِ ،
كالعاصفات السود ،
كالأشباح في بيت قديمْ
برزت لترعبْ ساكنيه
من غرفةٍ ظلماءَ فيه ..
*شاعر عراقي يقيم في أسلو