دخلت تونس في المحظور… تونس، مهد ما سُمّي بـ«الربيع العربي»، كانت على موعد مع صدمة هزتها حزناً أمس، مع قتل القيادي المعارض البارز شكري بلعيد، في أول عملية اغتيال سياسي تشهدها البلاد بعد الثورة أو بالأحرى منذ عقود، هدّد بإشعال الساحة التونسية، في ما اعتبره المعارضون مخططاً لإجهاض الثورة، تمتد خيوطه لأبعد من الحدود الجغرافية والسياسية لتونس.
إسلام تونس السياسي، الممثل بحركة «النهضة» وحلفائها، كان المتهم الأول في هذه العملية المفجعة. هكذا كان لسان حال ذوي بلعيد ورفاقه ومناصريه. هم أكدوا أن اليساري الشرس، المدافع عن العلمانية والديموقراطية في وجه التطرف الديني «النهضوي والسلفي»، أخاف جماعة «النهضة» فقتلته. بل ذهب بعضهم إلى التأكيد على أن الاستهداف أكبر من صراعات تونس الداخلية، فهو أشبه بمخطط خارجي يستهدف تعزيز هيمنة بعض القوى الاسلامية، المرتبطة بالخارج، على تونس.
من جهة أخرى، طغت مشاعر الصدمة والغضب على الشارع التونسي. وفور شيوع النبأ نزل الآلاف إلى الشوارع تعبيراً عن سخطهم، مطالبين بإسقاط الحكومة والنظام، في مشهد رأى مراقبون أنه يفتح الباب أمام ثورة تونسية ثانية، في وقت سارع رئيس الحكومة حمادي الجبالي إلى محاولة تدارك الغضب الشعبي بإعلان عزمه تشكيل حكومة تكنوقراط غير حزبية، تعمل كخلية أزمة على حلّ التطورات الأمنية، والعمل على إجراء انتخابات سريعة.
ضلوع «النهضة»
اتهام «النهضة» بالمسؤولية جاء بشكل مباشر على لسان زوجة بلعيد، بسمة الخلفاوي، التي بدت واثقة من «ضلوع حزب النهضة الحاكم وزعيمه الروحي راشد الغنوشي» في اغتيال زوجها شكري بلعيد. وقالت إن «الغنوشي هو الذي دعا إلى العنف وتستر عليه، كما حمى رابطة حماية الثورة التي ينسب إليها العديد من أعمال العنف التي تقع في هذا البلد». وأضافت قائلة إن «مقتل زوجي يعدّ ضربة قاسية لتونس ومعارضتها، وهو يضرب مباشرة مسار الانتقال الديموقراطي في البلاد»، مشيرة إلى أن زوجها تلقى «العديد من التهديدات، لكنه كان مخلصاً للثورة ولم يقدّر خطورة معارضة النهضة».
ويأتي اغتيال السياسي والمحامي التونسي على وقع صراع سياسي محتدم بين «حركة النهضة» الحاكمة وخصومها الذين يحمّلونها مسؤولية العنف الذي تشهده البلاد، تارة على شكل اشتباكات بين رجال أمن ومتظاهرين، وطوراً على شكل عنف «سلفي» يستهدف
هيئات مدنية ومؤسسات عامة، في الوقت الذي شكل فيه اغتيال بلعيد حلقة خطيرة وغير مسبوقة في مسلسل الصراع السياسي، وإن كانت سبقتها اغتيالات «انتقامية» لمعارضين اتهمت بها «النهضة».
وكان بلعيد قد لقي مصرعه صباح أمس، بعدما أطلق مجهول عليه النار أمام منزله في تونس العاصمة. واختلفت الروايات بين إصابة الزعيم اليساري برصاصتين أو بأربع رصاصات في الرأس والصدر، إلا أن المؤكد أنه نقل إلى المستشفى، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة.
وفيما ذكرت وزارة الداخلية التونسية في بيان أن قاتل بلعيد فرّ على دراجة نارية يقودها شريك له، أوضح شقيق المغدور عبد المجيد بلعيد أن أخاه أصيب برصاصتين لدى خروجه من منزله، وهو ما أكدته زوجته. في هذه الأثناء، خرجت روايات متعددة حول تفاصيل الجريمة، فيما نقلت «العربية» وصحيفة «الشروق» عن الصحافية التونسية نادية الداوود اتهامها سائق بلعيد بالتورط في قتله.
سخط شعبي..
واحتواء سياسي
تسارعت الأحداث بشكل غير مسبوق على الساحتين السياسية والأمنية في البلاد. فعلى الجبهة السياسية، حاولت الحكومة التونسية احتواء السخط الشعبي المتصاعد، حيث أعلن رئيس الحكومة التونسية وأمين عام حركة «النهضة» حمادي الجبالي تشكيل حكومة تكنوقراط تتشكل من «كفاءات وطنية لا تنتمي إلى أي حزب».
وقال الجبالي، في خطاب توجّه به إلى التونسيين عبر التلفزيون الرسمي، «قررت أن أشكل حكومة كفاءات وطنية لا تنتمي إلى أي حزب، تعمل من أجل (مصلحة) وطننا»، لافتاً إلى أن مهمة الحكومة التي ستكون «محدودة» في الزمن، تتمثل في «تسيير شؤون الدولة والبلاد إلى حين إجراء انتخابات (عامة) سريعة».
وأوضح أن الحكومة ستكون «مصغّرة» وستتشكل من «أبرز ما لدينا من كفاءات، وفي كل الوزارات السيادية وغيرها، تعمل على الخروج من هذه الوضعية»، موضحاً أنها سوف «تلتزم بحيادها عن كل الأحزاب السياسية» وأن «رئيس الحكومة وكتاب الدولة لن يترشحوا إلى الانتخابات».
ودعا الجبالي رئيس المجلس الوطني مصطفى بن جعفر إلى «أن يحدد لنا تاريخاً واضحاً وجلياً وفي أقرب الآجال للانتخابات».
من جهة أخرى، دفعت الحادثة برئيس البلاد منصف المرزوقي إلى قطع زيارته لفرنسا وإلغاء مشاركته في القمة الإسلامية في القاهرة. وفي خطاب أمام البرلمان الأوروبي، دان الرئيس التونسي «الاغتيال المشين لزعيم سياسي ولصديق قديم»، مؤكداً أنه «اغتيال سياسي. إنه تهديد. إنها رسالة لكننا نرفض تلقيها.. نرفض هذه الرسالة ونواصل كشف أعداء الثورة وسنواصل سياستنا».
وقال الرئيس التونسي «نتقدم على طريق ضيق جيداً مليء بالصعاب. الثورة أمر بسيط. ما بعد الثورة هو المرحلة المعقدة»، واعداً بـ«حماية أسلوب عيش تونس الحداثة» و«حماية كل الحريات» و«حماية مكتسبات المرأة».
على الخط الآخر، كان هناك الآلاف من التونسيين الذين ملأوا شوارع تونس للتنديد بالجريمة وتكريم المعارض الراحل. بداية، رافق مئات المتظاهرين الغاضبين سيارة إسعاف جابت وسط العاصمة تونس وعلى متنها جثمان بلعيد. وتوقفت سيارة الإسعاف أمام مقر وزارة الداخلية وردد المتظاهرون شعارات طالبت بإسقاط النظام والحكومة.
وأطلقت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع لإبعاد حوالي 4 آلاف متظاهر من أمام الوزارة. وبعد عمليات كر وفر ورشق بالحجارة، أقام المتظاهرون متاريس في شارع الحبيب بورقيبة، ومنعوا الشرطة من التقدم قبل أن تصل تعزيزات أمنية وتفرقهم باستعمال قنابل الغاز. كما شهدت التظاهرات التي جابت مدناً تونسية عدة، مقتل رجل أمن في باب الجزيرة، وسط العاصمة، بعد اشتباكات مع المتظاهرين.
الشارع التونسي بدا مصدوماً باغتيال معارض كان له تأثير بارز في مختلف مراحل إسقاط بن علي ومواجهة صعود التطرف الديني من بعده، وكذلك كانت عائلة بلعيد ورفاقه في الحزب وساحات النضال. أما أصابع الاتهام فتوجهت بشكل تلقائي إلى الحزب الحاكم المتمثل بـ«حركة النهضة» وحلفائها، فبلعيد لم يكن يفوّت الفرصة ليتهم الإسلاميين بمحاولة الاستئثار بالحكم وجرّ البلاد إلى العنف السياسي، وجاءت مقابلته أمس الأول مع قناة «نسمة» التي اتهم فيها «النهضة»، بالتعاون مع السلفيين، بإعطاء الضوء الأخضر للاعتداءات السياسية لتعتبر وفقاً لمعارضي تونس بمثابة «الدليل الدامغ» لتورط الحركة الإسلامية في تصفية بلعيد.
في المقابل، سارعت «النهضة» للنأي بنفسها، حيث نفت أن تكون لها أية علاقة باغتيال بلعيد، منددة بالأطراف التي وجهت إليها هذه الاتهامات. وقال رئيس «النهضة» راشد الغنوشي إن الحزب ليس له صلة بقتل بلعيد، معلّقاً «النهضة بريئة تماماً من اغتيال بلعيد.. هل من المعقول أن الحزب الحاكم ينفذ اغتيالاً مثل هذا يعطل الاستثمار والسياحة. ما هي مصلحته؟».
واتهم الغنوشي معارضيه العلمانيين بإثارة المشاعر ضد «النهضة» بعد مقتل بلعيد، قائلاً «هناك تجييش ضدنا بعد مقتل بلعيد. والنتيجة حرق ومهاجمة مقرات لحزبنا في بلدات سوسة والمنتسير والمهدية وصفاقس».
كما حذر الغنوشي من أن قتلة بلعيد يريدون جر تونس نحو «حمام دم»، في وقت دعت «النهضة» السلطات الأمنية إلى بذل كل جهد للكشف عن الجناة وتقديمهم للعدالة وإنارة الرأي العام حولهم وحول أهدافهم».
بدوره، قال عضو المكتب السياسي لحركة «النهضة» سيد الفرجاني إن «العملية كانت دقيقة وتذكّرنا بعمل استخباراتي، وهذا العمل هو غريب عن تونس»، معتبراً أنّ «من يتهم «النهضة» بهذا الاستعجال يريد أن يوفر مناخاً يريده أعداء ثورة تونس والربيع العربي».
«النهضة» ذهبت في دفاعها إلى أبعد من ذلك، إذ أقدم أحد المتحدثين باسمها إلى اتهام إسلاميين متشددين بالعملية، في إشارة إلى السلفيين التونسيين، الذين يتهمون بلعيد دائماً بالإلحاد ويدعون على صفحاتهم الاجتماعية إلى قتله.
ولم تقنع محاولات «النهضة» تبرير نفسها، إذ سارعت المعارضة التونسية إلى تعليق عضويتها في المجلس الوطني التأسيسي المكلف صياغة الدستور، كردّ فعل منها على عملية الاغتيال، في وقت دعت أحزاب «الجمهوري» و«المسار» و«العمال» و«نداء تونس» المعارضة الى إضراب عام في تونس اليوم، بحسب رئيس الحزب الجمهوري أحمد نجيب الشابي.
(«السفير»، «وات»، أ ف ب، رويترز، أب ، أ ش أ)