ذهبت «حماس» إلى مصر، بعد تردّد، من أجل الخروج من المأزق الذي ادخلت فيه قطاع غزة. في الأصل، هربت «حماس» إلى حرب غزّة تجاوزا لواقع رفضت القبول به والتصرّف انطلاقا منه. يتمثّل هذا الواقع في أنّها أفلست على كلّ صعيد بعد انكشاف مشروعها المصري الذي ليس سوى مشروع مكمل لمشروع الإخوان المسلمين. فشلت «حماس» مصريا، فبدأت مسيرة الهرب من مواجهة الحقيقة.
المؤسف أنّ مشروع «حماس» في غزّة، الذي لم يؤد سوى إلى تدمير القطاع وتشريد أهله وجلب الويلات عليهم، يلتقي مع المشروع الإسرائيلي. هناك حكومة اسرائيلية لا تمتلك أيّ مشروع سياسي باستثناء تكريس الاحتلال لجزء من الضفّة الغربية بصفة كونها، من وجهة نظرها، «أرضا متنازعا عليها» من جهة والهرب من استحقاقات السلام من جهة أخرى. إنّها بكل بساطة حكومة مفلسة سياسيا مثلها مثل «حماس».
ليس لدى هذه الحكومة التي على رأسها بنيامين نتانياهو سوى سياسة واحدة تقوم على ممارسة ارهاب الدولة بطريقة في غاية البشاعة على غرار ما هو حاصل في غزّة.
ذهبت «حماس» في نهاية المطاف إلى مصر للخروج من أزمتها. لماذا لا تكمل مشوارها السياسي؟ حاولت في البداية نقل هذه الأزمة إلى الضفة الغربية عن طريق وضع السلطة الوطنية وحكومة الوفاق الوطني التي تشكّلت حديثا في الواجهة. لم تفلح في ذلك. رفض أهل الضفّة الغربية الاستجابة لمطالب «حماس». عرفوا أن ذلك لا يمكن أن يعود عليهم سوى بالدمار والويلات من دون تحقيق أيّ نوع من المكاسب السياسية.
تسعى «حماس» بكل بساطة إلى السير على خطى «حزب الله» في لبنان. في صيف العام 2006، افتعل الحزب حربا مع اسرائيل. كان الطفل يعرف وقتذاك أنّ خطف جنود اسرائيليين موجودون داخل ما يسمّى «الخط الأزرق» في جنوب لبنان، سيؤدي إلى رد فعل عنيف.
استطاع «حزب الله»، الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، مقاومة الهجوم الإسرائيلي في البداية. ألحق بالإسرائيليين خسائر كبيرة قبل أنّ يلجأ هؤلاء إلى سلاح الجو والمدفعية الثقيلة التي ألحقت دمارا كبيرا بلبنان. دفع لبنان الثمن الكبير للحرب من دم ابنائه ومن بنيته التحتية ومن اقتصاده الذي عاد سنوات إلى الخلف.
لكنّ «حزب الله» رفع في نهاية الحرب علامة النصر، فيما راحت الجماهير العربية، الغائبة عن الوعي، تصفّق له. تبيّن أن الحزب حقّق وقتذاك انتصارا كبيرا على لبنان واللبنانيين لا أكثر. أمّا اسرائيل فخرجت راضية، إلى حدّ ما، عن نتائج الحرب بعدما صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار الرقم 1701 الذي وفّر لها كلّ الضمانات المطلوب توفيرها على طول خطّ الهدنة مع لبنان.
الدليل على ذلك، أن الهدوء يسود جنوب لبنان الذي ينعم أهله بالراحة والطمأنينة منذ صدور القرار 1701. هذا يحدث للمرّة الأولى منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي تخلى بموجبه لبنان عن جزء من أراضيه وعن سيادته عليها إرضاء للعرب الذين خسروا حرب 1967.
الفارق بين «حزب الله» و«حماس» أنه لا يوجد من يأتي للحركة بانتصار شبيه بالذي حقّقه الحزب. فانتصار «حماس» في مصر لم يعد واردا بعدما خسر الإخوان المسلمون المواجهة مع الشعب المصري. كذلك، إنّ انتصار «حماس» في الضفة الغربية صار من رابع المستحيلات نظرا إلى أن لا وجود لفلسطيني، يمتلك حدّا أدنى من الشعور الوطني والمنطق، يريد تكرار تجربة غزّة في الضفّة الغربية.
كيف لـ«حماس» أن تخرج من المأزق الذي أوصلت نفسها إليه بعد فشلها في غزّة أوّلا. الجواب بكلّ بساطة أن الذهاب إلى مصر كان خطوة أولى في الاتجاه الصحيح. كانت الاستجابة للمبادرة المصرية التي استهدفت وقف النار بعد أيّام قليلة من بداية العدوان الإسرائيلي سيوفّر على غزّة الكثير. ما دامت «حماس» قرّرت الذهاب إلى مصر، لم يعد أمامها سوى استكمال رحلتها. وهذا يعني في طبيعة الحال القبول بالواقع مهما كان أليما.
يملي الواقع القائم على «حماس» التخلي عن الخطاب المضحك المبكي الذي يؤكّد أنّها قادرة على اطلاق مزيد من الصواريخ. حسنا، تستطيع ذلك. تستطيع اطلاق مئات الصواريخ. ثمّ ماذا؟ إنّ اسرائيل ترحّب بكل أسف بهذه الصواريخ، نظرا إلى أنّها تتذرع بها للقول أنّ لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه وأنّ أيّ تساهل مع «حماس» سيؤدي إلى نصب صواريخها في الضفّة الغربية مع ما يعنيه ذلك من تهديد لكل مدينة وقرية اسرائيلية. هل تسمح موازين القوى القائمة على الأرض بالتصدي لهذا المنطق الإسرائيلي الذي يقبل به، شئنا أم أبينا، المجتمع الدولي؟
ثمّة حرب لا أفق سياسيا لها. كيف الخروج من الحلقة المقفلة؟ كيف كسر هذه الحلقة؟ وجد «حزب الله» من ينتصر عليه في لبنان. وجد اللبنانيين الآخرين المتمسّكين بثقافة الحياة والذين يعتبرهم أعداءه. أكّد أنّه الطرف الأقوى في البلد وأنّه قادر على منع انتخاب رئيس للجمهورية. أكثر من ذلك، أكّد أنّه ضمن لإيران وجودا على شاطئ المتوسّط.
مسكينة «حماس»، ليس لديها من تنتصر عليه سوى أهل غزّة وغزّة نفسها التي لا يريدها أحد، بما في ذلك اسرائيل. لم يعد لدى «حماس» أيّ أوراق تلعبها، خصوصا أنّ مصر باتت محصّنة وقد ظهر جليا في الذكرى السنوية الأولى لفضّ اعتصام رابعة العدوية في القاهرة. سعي الإخوان المسلمين، بدعم خارجي واضح، إلى استغلال تلك الذكرى إلى أبعد حدود. هناك منظمات دولية غير حكومية، نظريا، سعت إلى توفير كلّ دعم لهم ولكن من دون نتائج تذكر. خذل المصريون الإخوان المسلمين في مصر، فانسحب ذلك على «حماس» التي راهنت عليهم وراهنوا عليها.
مرّة أخرى، إنّها حرب لا أفق سياسيا لها. ليس أمام «حماس» سوى الاقتناع بذلك. عليها الاقتناع قبل كلّ شيء بأنّها انتهت نظرا إلى أنّ ليس لديها ما تقدّمه للشعب الفلسطيني غير الخراب والدمار والتخلّف. ففي كلّ يوم يمرّ يكتشف الغزاويون حجم الأضرار التي لحقت بالقطاع جراء الوحشية الإسرائيلية التي يقف العالم متفرّجا أمامها.
من يعرف كيف يخسر في السياسة أهمّ بكثير من الذي يعرف كيف يربح. يبدو أنّ «حماس» لا تعرف لا كيف تخسر ولا كيف تربح. الشيء الوحيد الذي تعرفه يتمثّل في كيفية جعل القضية الفلسطينية ورقة يتاجر بها الآخرون خدمة لأغراض ذات علاقة بكلّ شيء باستثناء الشعب الفلسطيني وكيفية تحقيق أهدافه المشروعة. على رأس هذه الأهداف ايجاد مكان له على الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط اسوة بالآخرين…
عن الراي الكويتية