الأرقام، في ذاتها أوّلاً، كفيلة بتأكيد المتغيرات العسكرية التي طرأت على «حماس»، بالمقارنة مع حروب إسرائيل السابقة ضدّ قطاع غزّة، عموماً؛ وضدّ الحركة، تحديداً وبصفة خاصة. خلال التوغل الإسرائيلي في عمق غزّة، أواخر 2008 ومطلع 2009، خسرت إسرائيل تسعة جنود، لم يسقطوا جميعهم برصاص المقاومة الفلسطينية؛ وأمّا هذه المرّة فقد قُتل ـ بالمعنى الحرفي للمفردة ـ قرابة 64 جندياً إسرائيلياً، طيلة شهر واحد.
تطوّر «حماس» العسكري تشهد عليه، أيضاً، القدرات الصاروخية الجديدة، وبعضها كان مفاجئاً تماماً للإسرائيليين، حتى إذا ظلّت الصواريخ بدائية من حيث التوجيه والتعقيد التكنولوجي. ومن نافل القول إنّ الصواريخ، أو بالأحرى ما تبقى من أعدادها خافياً في ترسانة «القسام»، باتت صخرة ثقيلة على أية طاولة للتفاوض، أياً كان الوسيط. وإذا كانت إسرائيل قد باءت بفشل ذريع في تحييد هذا السلاح، على النحو الذي أعلنه بنيامين نتنياهو كهدف لهذه الحرب؛ فإنّ أفكاراً مثل وضع الصواريخ تحت تصرّف وسيط مصري، أو حتى تسليم أمرها إلى سلطة محمود عباس، هي مقترحات غير قابلة للتطبيق عملياً، وأقرب إلى خيار الفشل المعلَن.
الأنفاق، وما تكشفت عنه شبكاتها الراهنة من فاعلية لوجستية وميدانية، كانت المظهر الثالث من تقدّم «حماس» عسكرياً؛ خاصة حين بثّت الحركة بعض أشرطة الفيديو التي تُظهر حسن استغلال مقاتلي «القسّام» لتلك الأنفاق، والمرونة العالية التي توفّرها من حيث الإغارة والمباغتة. ولم يكن بغير أسباب وجيهة تماماً ـ وقسرية في الواقع، لأنها طرأت خلال الساعات الأولى من عملية «الجرف الصامد» ـ أنّ العثور على الأنفاق وتدميرها صار في رأس أهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي، بل انقلب أحياناً إلى غطاء للهمجية القصوى التي اتصفت بها الضربات الجوية.
سياسياً، لا يلوح حتى الساعة أنّ «حماس» خسرت الكثير في علاقتها بالشارع الشعبي الغزاوي، رغم كلّ ما أصاب الناس من ويلات؛ أو أنّ خسائرها خلال التصدّي للعدوان الإسرائيلي تفوق كثيراً ما كانت تخسره بصفة يومية، منذ سبع سنوات أعقبت سيطرتها على القطاع. لكنّ الحركة، في الإجمال العربي والإقليمي الذي يتجاوز معطيات القطاع المحلية، تغيّرت بالفعل؛ راضية، وبإرادتها أحياناً (كما في الموقف من الانتفاضات العربية عامة، والعلاقة مع النظام السوري وإيران و»حزب الله» خصوصاً)؛ أو مُكرَهة مجبَرة، حيناً آخر، ولاعتبارات موضوعية وذاتية في آن معاً (كما في قراءة الحركة للمصالة مع «فتح»، وحكومة الوحدة الوطنية، ومتغيرات المشهد الإقليمي والعربي).
وثمة، هنا، سيرورة جدلية لافتة، لأنها تقيم ميزاناً تبادلياً بين الربح والخسارة: ما تخسره «حماس» من تبدّل مواقف الحكومة المصرية في عهد عبد الفتاح السيسي، بالمقارنة مع المواقف في عهد الرئيس السابق محمد مرسي؛ تكسب تعويضه في اضطرار مصر إلى لعب دور الوسيط، والتعامل مع قيادات «حماس»، وليس سلطة عباس، بوصفها الناطقة باسم غزّة، والمفوّضة بقبول الهدنة أو رفضها. وكذلك الحال، وإنْ بمنطق مختلف، في الحرج البالغ الذي وقع فيه حسن نصر الله وهو يكتفي بمساندة «المقاومة» لفظياً وخطابياً فقط، في حين أنّ عناصر حزبه الأشاوس كانوا يقاتلون إلى جانب النظام في سوريا، ضدّ شعبها.
وأمّا حال هذا الميزان التبادلي مع إسرائيل، فإنها أمضّ عاقبةً، رغم أنّ تجلياتها تقتصر على الرمز وحده أحياناً: أنّ «حماس» ليست باقية في غزّة، أكثر اطمئناناً إلى مواقعها على خريطة التفاوض، فحسب؛ بل أفضل استعداداً لاستثمار خسائرها الجسام، وتحويلها إلى… غنائم حرب!
القدس العربي