كنّا نركّز منذ زمن بعيد على أنّ هناك انزياحاً في رئيسيات أضلاع الجسد الغزاوي، على مستوى أضلاع سياسية معينة، كونها تحاول أن تنتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل إعادة إنتاج المنطقة، أو فلنقل أنّ مشغلين إقليميّين ودوليّين يحاولون فعل ذلك، وخاصة على مستوى الضلع السياسي في «حماس»، وتحديداً قيادة «حماس» في الخارج «الغزاوي»…
خلال التواصل السعودي القطري، وخلال إعادة إنتاح العلاقة بين النسقين المتباعدين: «السعودي المصري» مع «القطري التركي»، على أكتاف سقوط المشروع الإخواني في المنطقة، شكّلت «حماس» متّكأ من أجل إعادة تموضع «قطري تركي»، في وجه النسق الآخر، حيث كان المشهد «الغزاوي» يبدو مشوّشاً في عناوين هامة منه، خاصة في شقّه «الحمساوي»، باعتبار أنّ هناك تماسكاً وتجانساً موضوعياً حقيقياً بدا واضحاً ضمن باقي الفصائل الفلسطينية الأخرى، خاصة خلال المواجهة الأخيرة…
خلال أيام العدوان على «غزّة» خرج علينا موسى أبو مرزوق كي يطالب حزب الله بفتح جبهة الجنوب اللبناني، في حين أنّ حزب الله سبقه في التأكيد على أنّ معركة غزّة هي معركته، وأنّ حزب الله إلى جانب المقاومة في غزّة بكلّ ما تعني الكلمة من معنى، ونعتقد أنّ من كان له ولو معرفة بسيطة بواقع العلاقة بين حزب الله والمقاومة في غزة كان أدرك جيّداً ماذا يعني سماحة السيد بكلامه وموقفه من معركة غزّة، وكان أدرك أكثر أنّ هناك تواصلاً موضوعياً وعضوياً هائلاً وكبيراً، هنا السؤال الخطير: ماذا كان يريد أبو مرزوق أن يقول من وراء هذا الكلام الذي ساقه؟
وخلال أيّام العدوان خرج علينا خالد مشعل كي يؤكد على عناوين أساسية لها علاقة بخارطة أنساق إقليمية، «قطر، تركيا، مصر، السعودية»، وكي يغازل هذه الخارطة، ثم يضع «حماس» ضمن هذه الرئيسيات من هذه الخارطة، لكنّ محمد الضيّف يطالعنا بإطلالة صوتية يؤكّد فيها على المقاومة، باعتبارها جزءأً رئيسياً من مقاومة إقليمية في وجه المشروع الصهيوني، وأنّ هناك قوى إقليمية مقاومة تقف إلى جانبها، وأنّ المقاومة وحدها من تقرّر «خرائط الطريق» لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، الأمر الذي دفع قائد الحرس الثوري الإيراني للتأكيد على كلام قائد «كتائب القسّام»، وعلى دعم المقاومة، والوقوف إلى جانبها وقوفاً مطلقاً، وأكثر من ذلك فقد جاء موقفه كي يؤكد أنّ النسق «الإيراني السوري» في خضمّ المعركة، وأنّ هذا الحلف لن يتخلّى عن المقاومة، ولن يسمح لها أن تكون عنواناً في السمسرة والمقايضات الإقليمية…
توقّف العدوان الصهيوني على غزّة، وانتصرت المقاومة، فعلاً انتصرت المقاومة، في عناوين هامة جداً، وهي لم تخدم أنساق «الاعتلال العربي والإقليمي الإخواني»، «السعودية ومصر وقطر وتركيا»، لم تستطع لعبة «حماس» أن تعيد إنتاج اصطفاف جديد: «سعودي مصري تركي قطري»، كون أنّ نتاج المعركة في أهدافها الرئيسية لم تأت بما تطلّعوا إليه أو أعدوا له…
توقّف العدوان وخرج علينا خالد مشعل من جديد، كي يؤكد على «انتصار غزّة»، متوجهاً بالتحية إلى أطراف إقليمية وعربية كانت قد وقفت إلى جانب غزّة وإلى جانب المقاومة في معركتها، ولكن السؤال: «من هذه القوى»، أجاب مشعل بأنها: «قطر والسعودية ومصر وتركيا…»، الغريب لم يقل لنا مشعل كيف وقفت هذه القوى الإقليمية إلى جانب غزّة، طالما أنّ المعركة في إحدى رئيسياتها مع هذه القوى وهذه الأطراف، خاصة في ما يتعلق بعنوان «فتح المعابر»، وتحديداً «معبر رفح» المسؤولة عنه «مصر والسعودية وكيان الاحتلال»، ثم لم يقل لنا كيف وقفت تركيا إلى جانب غزّة وكانت سبباً في انتصارها، علماً أنّ جزءاً هاماً من مشهد العدوان كانت تخوضه تركيا على غزّة، من خلال مجموعة اتفاقيات «تركية إسرائيلة» ناظمة لعملية تعاون عسكري أسهمت جميعها في تنشيط العدوان على غزّة وعلى الشعب الفلسطيني!
ولم يستطع مشعل أن يقول لنا كيف وقفت قطر إلى جانب غزّة، وهل صحيح فعلاً أن قطر كانت واقفة إلى جانب غزّة، ربما يقول أحد منّا بأنها كانت تقف إلى جانبها «إعلامياً» من خلال «الجزيرة»، وهذا صحيح، لكن ماذا كان يحصل في أروقة وزواريب «الجزيرة»، هل فعلاً أنّ «الجزيرة» كانت تعبّر عن موقف سياسي حقيقي من أجل صمود غزّة والمقاومة، أم أنّ هناك تعليمات «للجزيرة» بأن تكون كذلك من أجل استعمال المقاومة في إعادة ترتيب وضع قطر، كي يُحجز لها موقع على الخارطة الصاعدة للمنطقة؟
مشعل عبّر عن حقيقة الانزياح الذي تحدثنا عنه طويلاً، كونه كان واضحاً أنّه في المقلب الآخر، وأنّ سورية وإيران وحزب الله في مكان آخر منه، وهذا كان واضحاً وجلياً، غير أنّ فصائل فلسطينية أخرى كان لها باع طويل في المواجهة والصمود عبّرت عن مواقفها، وهو ما ناقض موقف مشعل تماماً، حين خرجت علينا «سرايا القدس» الضلع العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» كي تردّ على مشعل، وبشكل غير مباشر، لكنّه جاء ردّاً واضحاً على ما عناه مشعل، حيث توجّه بالشكر إلى نسق المقاومة الإقليمي الأساسي والرئيسي، كما توجه بالشكر إلى فضائية «الميادين»، خاصة أنّ مشعل وجّه الشكر إلى فضائية «الجزيرة»، وهنا يجب فهم كلّ من هذه الإشارات: «الميادين، الجزيرة»، كما أنّ قيادات من الداخل الفلسطيني وخارجه، ردّت على مشعل بشكل أو بآخر، وتوجهت بالشكر إلى ما أسمته الداعم الرئيسي والحقيقي لصمود الشعب الفلسطيني، وكانت تعني به أو تسمّيه في أحيان كثيرة بأنّه الحلف المقاوم: إيران سورية حزب الله.
لم نكن الوحيدين الذين راقبنا هذا الانزياح بقيادة مشعل، ودعونا نقول هذه الاستراتيجية التي يقودها مشعل في سبيل استعمال «حماس» وتضحيات الشعب الفلسطيني أخيراً، وإنما كان هناك من يتابع ومنذ زمن بعيد هذه المحاولات لمشعل وغيره، حيث لم يفاجئنا الزهار في إطلالته قبل ساعات على فضائية «الميادين» كي يطالب «حماس»، لاحظوا جيداً، كي يطالب «حماس»، بأن تكون علاقاتها طيبة مع كلّ الدول العربية والإسلامية التي وقفت معها في صدّ العدوان على غزة، ولا نعتقد أنّ الزهار كان يعني قطر أو السعودية أو تركيا، ولا نعتقد أنّه كان يطالب محمد الضيف مثلاً كي تكون علاقته إيجابية من تلك الدول!
نعتقد أنّ هذا الاصطفاف سوف يتعمّق أكثر، ونعتقد أنّ شيئاً كان يرتّب لجبهة المقاومة، وقيادات «حماس» في الخارج كانت وما زالت متورّطة به، ونعتقد أنّ الهدف الرئيسي وغير المباشر من وراء العدوان على غزة لم تبلغه تلك القوى التي أعدّت له جيّداً، ونعتقد هنا بأنّ غزة انتصرت من خلال مستويين اثنيين، الأول أنّها انتصرت على آلة القتل الصهيوني، والثانية أنّها انتصرت على استراتيجية التصفية العربية والإقليمية والدولية.
عن البناء اللبنانية