يقوم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” ببث نشرة أسبوعية على الإنترنت تحت عنوان “تقرير الدولة الإسلامية”. ويحمل العدد الأخير عنوان “تحطيم حدود الطواغيت”. (الطواغيت هم المخلوقات من غير المسلمين). ومع استحضار معاهدة سايكس بيكو للعام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، تفتخر “داعش” بأنها تقوم بتدمير “تقسيم الأراضي الإسلامية على يد القوى الصليبية”. وقد تبدو هذه تبدو مهمة دونكيخوتية بالنسبة لفرقة صغيرة نسبياً من المقاتلين غير النظاميين، لكن “داعش” في محاولتها إعادة رسم خريطة العراق وسورية قد عزفت على وتر رابط ضعيف في السلسلة التي تربط دول الشرق الأوسط سوية.
من السهل توجيه اللوم لما يجري في سورية والعراق إلى الدكتاتوريين والإرهابيين، لكن هؤلاء اللاعبين السيئين هم مجرد لاعبين صغار في دراما تعود وراء إلى الحرب العالمية الأولى. وما يحدث راهناً هو أن الترتيبات التي وضعها البريطانيون والفرنسيون خلال وبعد الحرب العالمية الأولى -والتي أسست كنه وجود سورية ولبنان والعراق والأردن، وأسهمت لاحقاً في خلق إسرائيل- آخذة الآن في التفكك. وسوف تستمر بعض هذه الدول في شكلها الحالي، لكن بعضها الآخر لن يستديم. وقد تكون الولايات المتحدة قادرة على إبطاء أو تعديل هذه العملية، لكنها لن تكون قادرة على وقفها.
إذا نظرت إلى خريطة الشرق الأوسط في العام 1917، فإنك لن تجد لبنان وسورية والعراق والأردن أو فلسطين. ومنذ القرن السادس عشر، كانت تلك المنطقة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وكانت مقسمة إلى ولايات لم تتطابق مع الدول المندثرة ولا الدول المستقبلية. وقد خلق البريطانيون والفرنسيون الدول المستقبلية -ليس من أجل تسهيل انتقال مواطنيها إلى الحكم الذاتي كما كان من يفترض أن يفعلوا بموجب تفويض عصبة الأمم المتحدة، وإنما من أجل المحافظة على حكمهم الخاص لأراضٍ اعتقدوا بأنها تكتنز مقدرات اقتصادية أو استراتيجية كبيرة.
في العام 1916، كما يشير تقرير “داعش”، اتفق الفرنسيون والبريطانيون على تقسيم الشرق الأوسط العثماني في حال إلحاقهم الهزيمة بألمانيا وحليفها العثماني. واستولى الفرنسيون على الأراضي الممتدة بين الحدود اللبنانية وبين الموصل، في حين استولى البريطانيون على جزء من فلسطين وما سيكون الأردن وجنوبي إيران من بغداد إلى البصرة. وبعد الحرب، قام البلدان بتعديل هذه الخطط برعاية عصبة الأمم. وفي سان ريمو في العام 1920، أخذ البريطانيون الأراضي التي كانوا قد قسموها في العام 1921 إلى فلسطين وعبر الأردن وكل ما أصبح العراق. (وتنازلت فرنسا عن شمالي العراق في مقابل 25 في المائة من العوائد النفطية). واستولى الفرنسيون على سورية الكبرى التي قسموها إلى دولة ساحلية، لبنان، وأربع دول إلى الشرق، والتي ستصبح لاحقاً سورية.
كانت هذه الأراضي تضم دائماً مزيجاً من الديانات والأعراق. لكنهم بتثبيت الحدود وتوطيد حكمهم، عمق البريطانيون والفرنسيون الانقسامات الطائفية والعرقية. وشملت الدولة الجديدة في العراق الأكراد في الشمال (الذين كانوا أكراداً سنة، لكنهم غير عرب) والذين كان الفرنسيون قد وعدوهم بحكم ذاتي جزئي؛ والسنة في الوسط والغرب، والذين قادهم البريطانيون والملك الذي عينه البريطانيون والذي تحول إلى وسيط البلد في الطبقة الحاكمة؛ والشيعة في الجنوب الذين اصطفوا مع إيران، والذين كانوا في نزاع مع السنة منذ قرون. وبعد أن استولى البريطانيون على السلطة، اندلعت ثورة في العراق أخمدها البريطانيون بوحشية، لكن الاستياء من البريطانيين ومن الحكومة المركزية في بغداد سادا. وفي الدولة الجديدة عبر الأردن (والتي أصبحت لاحقاً الأردن)، سمح البريطانيون بقيام إمارة تحولت إلى مملكة؛ وفي فلسطين، وعد البريطانيون اليهود بوطن قومي وبدولتهم الخاصة بموجب وعد بلفور، بينما وعدوا بحقوق دينية ومدنية فقط للعرب الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من السكان.
في الدولة الجديدة في لبنان، رفع الفرنسيون المسيحيين اللبنانيين إلى مرتبة النخبة الحاكمة في البلد، ورسموا حدوداً أعطت للمسيحيين أغلبية نحيلة على المسلمين السنة والشيعة. وفي الأرض التي أصبحت سورية، فصل الفرنسيون مبدئياً العلويين (الذين تنحدر منهم عائلة الأسد) والدروز في ولاياتهم الخاصة، ومكنوا المسلمين السنة الحضريين في كل من دمشق وحلب. وخلال الحرب العالمية الثانية، اتحدت سورية أخيراً في الدولة التي توجد اليوم.
منذ البداية، كانت هذه الدول المخلوقة حديثاً محاطة بأعمال الشغب والثورات، وحتى الحرب الأهلية. وكانت معظم الثورات المبكرة قد توجهت ضد السلطات الاستعمارية. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، عندما حصلت هذه الدول على استقلالها، قاتلت الطوائف الدينية والعرقية والقوميات المختلفة بعضها بعضا من أجل السيادة -الكرد والسنة والشيعة في العراق، واليهود والعرب في فلسطين (لاحقاً الإسرائيليون والفلسطينيون)، والمارونيون والمسلمون في لبنان، والعلويون والسنة في سورية. ولم يكن النزاع الناجم نتاجاً للهوية العربية أو الإسلامية. وكما أشار العالم السياسي في جامعة أوكلاهوما، جوشوا لانديس، فإن الفوضى في هذه الأراضي كانت مشابهة جداً لتلك التي وقعت وما تزال تقع في دول مختلفة تم إنشاؤها أو إلغاؤها في أوروبا الوسطى والشرقية، في أعقاب انهيار الإمبراطوريات النمساوية والهنغارية والروسية وانهزام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
في لبنان ما يزال الاضطراب مستمراً. ما يزال لبنان يفتقر إلى سلطة حكومة مستقرة. وفي العراق وسورية، توقف النزاع بين الطوائف وبين الإثنيات بشكل مؤقت بفضل الدكتاتوريات التي قمعت بشدة أي تلميح إلى الثورة. واستخدمت إسرائيل قواتها العسكرية لاحتواء النزاع مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. لكن الغطاء نُزع عن القمع في العراق وسورية نتيجة للغزو الأميركي في العام 2003، والذي أطاح بصدام حسين، ونتيجة للربيع العربي الذي امتد إلى سورية.
نظريا، من الممكن أن يعاد فرض الغطاء في كلا البلدين من جانب دكتاتورية وحشية، لكنه يبدو من غير المرجح على نحو متزايد أن يكون نوري المالكي في العراق وبشار الأسد في سورية على حد سواء قادرين على فرض النظام في دولتيهما المقسمتين بشكل معمق. والأكثر ترجيحاً هو أن العراق وسورية سينقسمان، مثل يوغوسلافيا السابقة، إلى دول منفصلة. والمرجح أن يذهب أكراد العراق إلى دولتهم أولاً.
لا يكمن الخطر بالنسبة للولايات المتحدة في انقسام هذه الدول، وإنما في تمكين المجموعات الإرهابية مثل “داعش”، والتي تستطيع تهديد إنتاج النفط في المنطقة، واستخدام مناطقها التي ينعدم فيها القانون لنشر الفوضى والإرهاب في الأماكن الأخرى، بما في ذلك في الغرب. وعلى المدى البعيد، ينبغي للولايات المتحدة أن تقلق من زعزعة الاستقرار في منطقة مهمة جداً لاقتصاد العالم، والتي ستحوز على القوة النووية في نهاية المطاف.
في الماضي، كانت الولايات المتحدة تتعامل بفكرين مع الفوضى في الشرق الأوسط. بشكل عام، دعمت الولايات المتحدة الملوك والدكتاتوريين لأنهم كانوا ودودين تجاه الولايات المتحدة. أما تحت رئاسة جورج دبليو بوش، فقد سعت الولايات المتحدة إلى خلق ثورة ديمقراطية في المنطقة عبر الإطاحة بصدام حسين. وأثبت ذلك فشله وعقمه وخطورته، لكن إدارة أوباما بدت وأنها تصادق على تلك الأهداف في العام 2011 في أعقاب ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا. والآن، تبدو استراتيجية الإدارة لهذا الهدف في تبنيها المتحمس لحكومة مصر القمعية، بينما تدعو لإزاحة بشار الأسد.
(نيو ريببليك)