تقترب ألمانيا من خريف صعب في 2024. ففي 1 أيلول، ستشهد ولايتان شرقيتان، تيرنجن وساكسون، انتخابات برلمانية يتوقع أن يسجل فيها اليمين المتطرف كما اليسار المتطرف حضوراً لافتاً. بل إن بعض استطلاعات تفضيلات الناخبات والناخبين يدلل على أن حزب البديل لألمانيا – صاحب البرنامج اليميني المتطرف – قد يصبح القوة الحزبية الأولى في ولاية من الولايتين على الأقل. كذلك، تظهر ذات الاستطلاعات أن اليسار المتطرف الذي تقوده السيدة سارة فاجنكنشت، والتي أسست مؤخراً حزباً سمي على اسمها وتتبنى سياسات مناهضة للهجرة وللاتحاد الأوروبي وتعارض الدعم الألماني لأوكرانيا، هذا اليسار قد يحصل على تمثيل برلماني مؤثر في الولايتين.
في المقابل، تبدو حظوظ أكبر أحزاب المعارضة على المستوى الفيدرالي، الحزب المسيحي الديمقراطي جيدة، بينما تنهار فرص الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يقود الائتلاف الفيدرالي الحاكم منذ عدة سنوات.
فالأزمات الداخلية تحاصر المستشار أولاف شولتس من كل صوب وحدب، وانهيار الرضا الشعبي عن سياسات حكومته، المكونة من حزبه الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر (يسار الوسط) والحزب الديمقراطي الحر (يمين الوسط)، تثبته استطلاعات الرأي العام الأسبوعية.
كذلك تمر ألمانيا خارجياً بفترة صعبة تشهد توترات مستمرة في العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، وعجزاً عن إيقاف الحرب الروسية على أوكرانيا التي تهدد أمن الألمان والشعوب الأوروبية، وتصاعداً لحملات الدعاية السلبية عالمياً بعد الصمت الألماني على الحرب على غزة ومواصلة الائتلاف الحاكم تقديم السلاح والذخيرة والدعم العسكري والمالي للحكومة الإسرائيلية.
كنت على شيء من الدراية بتلك الأزمات والتوترات بفعل متابعتي للصحافة الألمانية. غير أنني لم أدرك تداعياتها الفعلية والكثيرة على حياة الناس إلا حين قدمت إلى برلين خلال تموز الماضي في زيارة أسرية، وأتيح لي التواصل مع بعض الأصدقاء من سكان المدينة.
قدمت إلى العاصمة الألمانية مستقلاً القطار السريع من عاصمة أوروبية قريبة، وكان يفترض أن تستغرق الرحلة 4 ساعات. غير أن أعطالاً فنية متكررة على خط القطار ما أن بلغنا الأراضي الألمانية رتبت وصولي متأخراً بما يقرب من 4 ساعات، ودفعتني إلى التقدم بشكوى إلى إدارة السكك الحديدية والبحث على مواقع التواصل عن معلومات عن حال «دي دويتشه بان» (السكك الحديدية الألمانية) التي كان يباهي بها الألمان العالم لانضباط مواعيدها وجودة خدماتها. فاكتشفت أن السكك الحديدية الألمانية تراجعت بشدة خلال السنوات الماضية بسبب غياب الاستثمارات الحكومية والخاصة اللازمة لتحديثها (يبلغ إجمالي العجز الاستثماري 60 مليار يورو)، إنْ نحو تعميم القطارات الكهربائية (لا تتجاوز نسبة تشغيل القطارات الكهربائية إلى إجمالي القطارات العاملة في السكك الحديدية الألمانية حد الـ35 بالمائة)، أو تحسين الخطوط والشبكات للقضاء على الأعطال والتأخر المستمر (بلغ المتوسط اليومي لوقت الأعطال والتأخر اليومي في القطارات الألمانية ما يقرب من 3 ساعات، بينما لا يتجاوز المتوسط المقارن في سويسرا 3 دقائق وفي اليابان 36 ثانية).
اكتشفت أيضاً أن السكك الحديدية صارت مادة للسخرية والتندّر مما آلت إليه أحوال البلد صاحب الاقتصاد الأوروبي الأكبر الذي صار في طور الانكماش وفقاً للبيانات الاقتصادية للعام الماضي 2023، وساحة لصراعات الأحزاب السياسية التي تعد جميعها بالتحديث حين تكون في صفوف المعارضة ولا تنفذ من وعودها شيئاً حين تصل إلى مقاعد الحكم.
كأنّ تأخر القطار في طريقي إلى برلين كان بمثابة مقدمة للأزمات الأخرى التي أحاطت بي في الصيف الألماني، فما أن وصلت إلى وجهتي حتى اتضح لي المدى الحقيقي لأزمة الغاز والطاقة التي تقض مضاجع المواطنات والمواطنين.
في منازل الأهل والأصدقاء، وبسبب الخوف من فواتير الغاز والكهرباء القادمة، يحد الجميع من استهلاكه للطاقة بطرق مختلفة: 1) في الشتاء تدفئة وإنارة غرفة المعيشة كغرفة وحيدة مؤهلة لحياة الأسرة، وترك بقية الغرف دونهما منعاً لاستهلاك الطاقة، وفي الصيف يتحول الأمر إلى إنارة غرفة المعيشة فقط والاقتصاد في استهلاك الطاقة بكافة الأشكال الممكنة. 2) في الشتاء، تغيير عادات الملبس داخل المنازل لتواكب درجة البرودة خارجها بحيث تستخدم الملابس الشتوية الثقيلة أيضاً في الداخل (أو كما قالت لي صديقة برلينية لديها من الأولاد 4 إنها أضحت تمنعهم من ارتداء الملابس الصيفية ورفع درجات التدفئة داخل المنزل في الشتاء)، ويصير الأمر في الصيف دعوة إلى قضاء أوقات أطول في المتنزهات العامة. 3) الامتناع المتعمد من قبل كُثر عن إنارة الدرج توفيراً للكهرباء وابتعاد من يملكون أدوات كهربائية كمالية (كمنشفات الملابس) عن تشغيلها.
وإذا كانت الأسر الألمانية تقتصد عن وعي فيما خص استهلاكها للغاز والكهرباء توفيراً للطاقة، فإن الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات تقتصد أيضاً بتقليل التدفئة والإنارة في الأماكن العامة ووسائل المواصلات. يحدث ذلك بينما تتناقل الصحف ووسائل الإعلام أخبار تطورات المخزون الوطني من الغاز ومعدلات الاستهلاك المنتقص منه، فقد علمت على سبيل المثال كغريب عائد أن المخزون الوطني انخفض بنسبة تتجاوز 3 بالمائة بسبب استهلاك الأفراد والمصالح الحكومية والاقتصادية والتجارية خلال الشتاء الماضي، وأن حكومة المستشار شولتس تعمل على التعويض السريع.
ثم تتواكب أزمة تدهور السكك الحديدية، وأزمة التعامل مع نقص إمدادات الطاقة وتداعياتها على التدفئة والكهرباء، مع عودة جائحة كورونا في موجة جديدة ترهق الناس وترفع معدلات الإشغال في وحدات العناية المركزة في المستشفيات الحكومية والخاصة.
يتواكب كل ذلك مع انهيار معدلات الرضا الشعبي عن حكومة شولتس بأحزابها الاشتراكي الديمقراطي والخضر والديمقراطي الحر (ائتلاف إشارة المرور كما يسمونه في ألمانيا نظراً لألوان أحزابه، الأحمر للاشتراكيين والأخضر للخضر والأصفر للديمقراطيين الأحرار)، بسبب صراعاتها البينية المتكررة (وهي صراعات علنية تحدث في البرامج التلفزيونية الحوارية) والفجوة الواسعة بين برامجها الانتخابية التي وعدت الألمان بالتحديث التكنولوجي والطاقة المتجددة وجسر الهوة بين الأغنياء والفقراء والقضاء على فقر الأطفال، وبين حقيقة سياساتها بعد انقضاء أكثر من نصف الدورة البرلمانية والحكومية التي جاءت بائتلاف إشارة المرور وبالمستشار شولتس.
فيما خص علاقات ألمانيا الخارجية، فقد صار واضحاً عجز حكومة شولتس عن الاضطلاع بالدور التقليدي لجمهورية برلين في صناعة التوافق بين روسيا وأوروبا وبين المصالح القارية الأوروبية والسياسات الأميركية. بل إن التخلي الألماني عن الحياد فيما خص الصراعات العسكرية والابتعاد عن توريط السلاح الألماني في ساحات الحروب والقتال – ذلك التخلي الذي قاده الحزب الاشتراكي الديمقراطي صاحب إرث «سياسة الشرق» والانفتاح على روسيا وحزب الخضر الذي خرج من رحم حركة السلام الألمانية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين – أضحى الملمح الأهم لسياسة ألمانيا الخارجية وللخطاب العلني لوزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، التي لا تمل من إلقاء «محاضرات في القيم الديمقراطية» على مسامع الشعوب الأوروبية والعالم خارج الغرب، ولم يُسجل لها إلى اليوم نجاح دبلوماسي واحد وتكتفي بالإصرار على مواصلة الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا حتى وإن استخدمت الأسلحة الألمانية في اعتداءات على الأراضي الروسية.
تخلت ألمانيا عن حيادها العسكري، فافتقدت القدرة على الوساطة لحل الخلاف والصراع مع روسيا. عسكرت السياسة الخارجية الألمانية، وأضحت وزيرة الخارجية تحاضر عن القيم العليا، بينما ألمانيا تقدم السلاح إلى مناطق الحروب وتطيل من ثم زمن المعارك في أوكرانيا وروسيا وغزة. والحصيلة هي انفضاض العالم بعيداً عن ألمانيا، التي كان اعتدالها ومرونتها وسياسات اليد الهادئة لحكوماتها مصدر قوتها وفاعليتها في أوروبا وخارجها.
ولأن ائتلاف إشارة المرور يستبدل تصدير السلاح والمحاضرات في القيم بالحياد العسكري والاعتدال والمرونة، تواجه ألمانيا أزماتها الداخلية العديدة، والتوترات الخارجية المحيطة بها تتراكم، وحالة القلق العام التي يشعر بها العدد الأكبر من المواطنات والمواطنين تتصاعد.