الناصرة- ما هي غايات إسرائيل النهائية في غزة؟ هذا هو السؤال الذي ما يزال يحير المحللين والمراقبين منذ بعض الوقت. لكن مؤشرات المستقبل الذي تفكر فيه إسرائيل وواشنطن لغزة ربما بدأت في الظهور أخيراً.
مع اكتظاظها بشدة، وعوزها للموارد الأساسية مثل المياه العذبة، ومعاناتها من الحصار المستمر الذي تفرضه عليها إسرائيل منذ ثماني سنوات، وبنيتها التحتية التي تتعرض للتدمير المتكرر نتيجة لحملات القصف الإسرائيلية، أصبحت غزة تشبه مرجل ضغط عملاق جاهز للانفجار.
من الصعب أن نتصور أن إسرائيل سوف تواجه الاضطرابات الهائلة التي سوف تندلع، عاجلاً أو آجلاً، على عتباتها. فكيف تقترح إسرائيل تجنب مواجهة سيناريو يتوجب عليها فيه إما أن تقمع انتفاضة جماهيرية يقوم بها الفلسطينيون في غزة، أو أن تجلس وتشاهدهم بينما يهدمون أسوار سجنهم؟
تشير تقارير ظهرت في الإعلام العربي والإسرائيلي –والتي أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس جزءاً منها- إلى أن مصر ربما تكون في قلب الخطط التي يجري إعدادها لحل المشكلة نيابة عن إسرائيل.
في شهر أيلول (سبتمبر) ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية مزاعم، سربها مسؤولون إسرائيليون على ما يبدو، تقول بأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عرض على القيادة الفلسطينية فرصة أن تضم إلى غزة مساحة 1600 كيلومتر مربع من شبه جزيرة سيناء المصرية. وسوف توسع هذا الأراضي المتبرع بها مساحة غزة خمسة أضعاف. ويقال إن هذه الخطة حظيت بمباركة الولايات المتحدة.
خطة “غزة الكبرى”
وفق ما ذكرت التقارير، سوف تصبح هذه الأرض في سيناء دولة فلسطينية منزوعة السلاح –يطلق عليها اسم “غزة الكبرى”- والتي سيُسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إليها. وسوف تُمنح سلطة محمود عباس الفلسطينية حكماً ذاتياً في مدن الضفة الغربية على مساحة تشكل نحو خُمس المناطق. وفي المقابل، سيكون على عباس أن يتخلى عن الحق في إقامة دولة في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
هذه الخطة التي سوف ينتج عنها حتماً انتقال أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى خارج حدود فلسطين التاريخية، سرعان ما رفضها المسؤولون الفلسطينيون والمصريون ووصفوها بأنها “ملفقة وعارية عن الصحة”. واتهم الطيب عبد الرحيم، المتحدث باسم عباس، إسرائيل باستخدام هذا الاقتراح من أجل “تدمير القضية الفلسطينية”، مشيراً إلى جهود عباس في الأمم المتحدة لنيل الاعتراف بإقامة دولة فلسطينية على أجزاء من فلسطين التاريخية. لكن إنكار عبد الرحيم أثار من الأسئلة أكثر مما قدم من الإجابات. فبينما يرفض الاقتراحات بأن السيسي قدم مثل هذا العرض، طرح عبد الرحيم زعماً مفاجئاً آخر: قال إن هناك خطة مشابهة لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، كان قد تقدم بها لفترة وجيزة سلف السيسي، الرئيس السابق محمد مرسي.
كان مرسي، الذي شغل منصب الرئيس لمدة سنة ابتداء من صيف العام 2012 حتى أطاح به السيسي في انقلاب عسكري، قد ترأس إدارة من جماعة الإخوان المسلمين، والتي حاولت تقوية العلاقات مع قيادة حركة حماس في غزة.
قال عبد الرحيم أن الخطة المذكورة قامت على اقتراح كان قد تقدم به غيورا إيلاند، مستشار الأمن القومي لإسرائيل خلال الفترة من العام 2004 وحتى 2006. ويبدو أن عبدالرحيم كان يشير إلى خطة كشف إيلاند النقاب عنها في العام 2004، والتي أملت إسرائيل بتنفيذها بعد سنة من انسحاب المستوطنين والجنود من غزة فيما سُمي “فك الارتباط”. ووفقاً لشروط إيلاند، فإن إسرائيل ستوافق على توسيع غزة في داخل شبه جزيرة سيناء، مقابل إعطاء إسرائيل بعض الأراضي لمصر في النقب.
الاستراتيجيات الصهيونية
يوجد لفكرة إقامة دولة فلسطينية خارج فلسطين التاريخية -سواء في الأردن أو سيناء- تاريخ طويل في الفكر الصهيوني. كانت عبارة “الأردن هو فلسطين” صرخة تحشيد متكررة في اليمين الإسرائيلي منذ عقود. وكانت هناك اقتراحات موازية تتعلق بسيناء. وفي الأوقات الأخيرة، وجد خيار سيناء استحساناً لدى اليمين الإسرائيلي، خصوصاً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية قبل 14 عاماً. ويبدو أن دعم هذه الفكرة قد تصاعد بعد فك الارتباط في العام 2005، ثم فوز حماس في الانتخابات الوطنية الفلسطينية في العام التالي.
بطريقة جديرة بالملاحظة، كان ذلك المخطط محور مؤتمر هرتسليا للعام 2004، وهو اجتماع سنوي لنخب إسرائيل الأكاديمية والأمنية والسياسية يعقد من أجل تبادل الأفكار وتطوير السياسات. آنذاك، تبنى هذا المخطط بحماس عوزي آراد، مؤسس المؤتمر الذي عمل مستشاراً لفترة طويلة لرئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. واقترح آراد تبادلاً ثلاثياً، يحصل الفلسطينيون بموجبه على جزء من سيناء لإقامة دولتهم، بينما تأخذ إسرائيل معظم الضفة الغربية في المقابل، وتمنح مصر ممراً برياً عبر النقب يصلها بالأردن.
بعد ذلك، نفض اليمين الإسرائيلي الغبار عن نسخة من فكرة “سيناء هي فلسطين” مجدداً خلال عملية الجرف الصامد، الهجوم الذي شنته إسرائيل واستمر 50 يوماً على غزة هذا الصيف. ودعا موشيه فيجلين، رئيس الكنيست الإسرائيلي وعضو حزب نتنياهو “الليكود” إلى طرد سكان غزة من ديارهم تحت غطاء العملية العسكرية، ونقلهم إلى سيناء، في إطار ما أسماه “حلٌّ لغزة”.
هل عرض مرسي سيناء فعلاً؟
بالنظر إلى أن الأساس المنطقي لخيار سيناء هو إخراج الفلسطينيين مما يعتبره اليمين الإسرائيلي إسرائيل الكبرى، وإلى أن مثل هذه الخطة تلقى معارضة شديدة لدى جميع الفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس، فلماذا يمكن أن يدعم مرسي هذا الخيار؟ وعلاوة على ذلك، لماذا كان ليقترح التخلي عن قطعة من الأراضي المصرية في سبيل تلبية الأطماع الإسرائيلية، وبحيث يقوض مصداقيته المحلية في وقت كان يحارب فيه من أجل البقاء السياسي على العديد من الجبهات الأخرى؟
أحد الاحتمالات هو أن مكتب عباس قام باختلاق القصة ببساطة، بهدف تشويه سمعة مرسي والإخوان المسلمين، ومعهم خصوم عباس السياسيين في حركة حماس، وبالتالي كسب ود السيسي.
لكن قلة من الفلسطينيين أو المصريين فقط هي التي وجدت في هذه المزاعم مصداقية على ما يبدو، كما لم يعرض السيسي أي اهتمام بمتابعة هذا الخط من الهجوم ضد مرسي. فلماذا يختلق عباس قصة ربما ترتد عليه من خلال ربطه بتحركاتٍ مخادعة تقوم بها مصر وإسرائيل والولايات المتحدة؟
هناك قطعتان أخريان من الأحجية، واللتان تقترحان أنه ربما تكون هناك أجزاء من قصة سيناء هذه أكثر مما تراه العين. أولاهما هي التعليقات التي أدلى بها عباس قبل فترة وجيزة من بدء وسائل الإعلام الإسرائيلية بالتحدث عن عرض السيسي المزعوم، والوقت الذي بدأ فيه تداول الشائعات في وسائل الإعلام العربية.
أشار عباس في اجتماع مع أنصار حركة فتح في 31 آب (أغسطس) إلى أن اقتراحاً بإنشاء دولة فلسطينية في سيناء ما يزال موضع اهتمام لدى المسؤولين المصريين. ونُقل عنه قوله: “قال قيادي بارز في مصر: ’يجب إيجاد ملجأ للفلسطينيين ولدينا كل هذه الأرض المفتوحة. قيل هذا لي شخصياً. لكن من غير المنطقي حل هذه المشكلة على حساب مصر. لن نفعل ذلك”. وقال موقع صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” إن الصحيفة تأكدت في وقت لاحق من صحة هذه التعليقات من عباس نفسه.
وكان الزعيم الفلسطيني قد أدلى بتصريحات مماثلة على شاشة التلفزيون المصري قبل أسبوع من ذلك، عندما قال في مقابلة أن خطة إسرائيلية لسيناء “لقيت القبول للأسف من البعض هنا (في مصر). لا تسألني أكثر من ذلك. لقد رفضنا ذلك، لأنه لا يمكن أن يكون”.
ماذا عن مبارك؟
جاءت القطعة الثانية من الأحجية في تقرير نشر باللغة الإنجليزية في شهر آب (أغسطس) الماضي وحظي بالقليل من الملاحظة، على الموقع الإلكتروني لصحيفة “الشرق الأوسط” العربية التي تقع مكاتبها في لندن، لكنها تحتفظ بعلاقات قوية مع العائلة المالكة السعودية. وزعم التقرير أن الرئيس المصري حسني مبارك كان في السنوات الأخيرة من رئاسته تحت ضغط منسق ومتكرر من الولايات المتحدة، من أجل دفعه إلى التخلي عن أراض في سيناء للفلسطينيين لمساعدتهم على إقامة دولة. وقال التقرير، بناء على معلومات قيل إنها منقولة عن مسؤول سابق لم يذكر اسمه في إدارة مبارك، فإن ممارسة الضغط على مصر بدأت منذ العام 2007.
ونقل المصدر عن مبارك قوله في ذلك الوقت: “إننا نقاتل كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل. هناك ضغط يُمارس علينا لفتح معبر رفح للفلسطينيين ومنحهم حرية الإقامة، وخاصة في سيناء. وفي سنة أو سنتين، سوف تكون قضية مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سيناء قد أصبحت قيد التدويل”.
من وجهة نظر مبارك، وفقاً للتقرير، أملت إسرائيل بأنه بمجرد أن يصبح الفلسطينيون داخل الأراضي المصرية وعلى التراب المصري، فإنه سيتم التعامل مع المنطقة المجتمعة من سيناء وقطاع غزة على أنها الدولة الفلسطينية. وستكون هذه هي المنطقة الوحيدة التي سيسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إليها.
وقال المصدر المصري، مستبقاً تصريحات لاحقة من مكتب عباس، إن اقتراحاً مماثلاً طُرح على مرسي عندما جاء إلى السلطة في العام 2012. وقد سافر وفد من قادة الإخوان المسلمين إلى واشنطن، حيث اقترح مسؤولون في البيت الأبيض أن “تتنازل مصر عن ثلث سيناء لغزة في عملية من مرحلتين، والتي تمتد من أربع إلى خمس سنوات”. ووعد المسؤولون الأميركيون، وفق التقرير، بـ”إنشاء دولة فلسطينية ودعمها بالكامل” في سيناء، بما في ذلك إنشاء موانئ بحرية ومطار فيها. وحثوا جماعة الإخوان على تهيئة الرأي العام المصري للصفقة.
قِطع الأحجية
إذن، أي معنى يمكن أن نستخلصه من هذه القطع المختلفة من الأحجية؟
من حيث المبدأ، يمكن إسقاط كل واحدة من هذه القطع إذا أخذت منفصلة؛ حيث يستند تقرير صحيفة الشرق الاوسط إلى مصدر مجهول، وربما تكون هناك مصالح سعودية في ترويج القصة. وبالمثل، ربما يكون الإسرائيليون بصدد شن حملة تضليل.
لكننا إذا أخذنا قطع الأحجية كلها معاً، وبالنظر إلى أن عباس قد اعترف، متردداً وعلى مضض، بعناصر رئيسية من القصة على ما يبدو، فإنه يصبح من الأصعب تجاهل احتمال أن تكون التقارير مرتكزة على نوع ما من الواقع.
يبدو أن ثمة القليل من الشك –سواء من معطيات التقارير أو من التطلعات الأوسع لليمين الإسرائيلي- في أن خطة سيناء كانت من وضع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وأنه يجري الدفع بها بقوة، على الأقل من خلال التسريبات الحالية لوسائل الإعلام الإسرائيلية. كما يبدو محتملاً كثيراً أيضاً أن يكون قد تم الدفع بتنويعات من هذه الخطة بمزيد من القوة منذ العام 2007، عندما تولت حماس السيطرة الحصرية على غزة.
يقوم المنطق الإسرائيلي الحالي لخيار سيناء على أنه يقوض حملة عباس المتكاثفة في الأمم المتحدة من أجل الحصول على اعتراف بدولة فلسطينية، والتي تعارضها كل من إسرائيل والولايات المتحدة بشدة. كما يبدو معقولاً أيضاً أن تدعم الولايات المتحدة هذه الخطة، نظراً لقوة علاقاتها مع إسرائيل، وأن تضع وزناً كبيراً في اتجاه إقناع القيادات المصرية والفلسطينية بها.
لكن الذي يظل صعباً على القراءة، مع ذلك، هو ما إذا كانت مصر قد استجابت لمثل هذه الحملة. وقد أوضح محلل مصري رد الفعل المتوقع من السيسي وجنرالاته على ذلك بالقول: “تحاول مصر بلا هوادة الإبقاء على غزة تحت السيطرة. يجري تدمير الأنفاق والتخطيط لإقامة منطقة عازلة. وسوف يكون جلب عناصر يمكن أن تنطوي على مزيد من العداء أقرب إلى مصر خطوة خطيرة ومتهورة”.
هذا صحيح بما فيه الكفاية. ولكن، أي وسائل ضغط تمتلكها إسرائيل والولايات المتحدة على مصر، والتي ربما تقنعها بالتغاضي عن مخاوفها المتعلقة بأمنها الوطني؟
شد البرغي.. تضييق الخناق
بالإضافة إلى المبالغ الكبيرة من المساعدات العسكرية التي تعطيها واشنطن لمصر كل عام، هناك مسألة تصبح أكثر إلحاحاً باطراد في القاهرة، والتي تتمثل في حالات النقص الحاد في الوقود، والتي تنطوي على خطر تأجيج جولة جديدة من الاحتجاجات في الشوارع المصرية.
وفي المقابل، اكتشفت إسرائيل مؤخراً مخزونات كبيرة من الغاز الطبيعي في مياهها، وهي على استعداد لتصديرها إلى الدول المجاورة. وقد وافقت بالفعل وبهدوء على صفقات بهذا الخصوص مع السلطة الفلسطينية والأردن، ويقال إنها وصلت إلى مرحلة متقدمة من المحادثات مع مصر بهذا الخصوص أيضاً. فهل يشكل هذا جزءاً من الضغط الذي يُمارس على القادة المصريين للتنازل عن الأرض في سيناء؟ وهل يشكل أسباباً كافية لجعلهم يتغافلون عن شواغلهم الأمنية؟
أخيراً، هناك دور القيادة الفلسطينية. وقد أكد عباس بحزم أنه لن يؤيد مثل هذه الصفقة. فكيف تفكر إسرائيل بأنها يمكن أن تغير رأيه؟
أحد الاحتمالات المثيرة للجدل، والذي يلقي ضوءاً مختلفاً جداً على أحداث هذا الصيف، هو أن إسرائيل ربما تأمل في “تليين” الرأي العام الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، من خلال جعل الحياة أكثر صعوبة وأقل إمكانية للتحمل مما هي عليه أصلاً بالنسبة للسكان هناك.
من الجدير بالملاحظة أن عمليات إسرائيل واسعة النطاق لمهاجمة غزة -في شتاء 2008-09، في 2012 ومرة أخرى هذا العام- بدأت بعد وقت قصير من بدء إسرائيل والولايات المتحدة بشد البرغي وتضييق الخناق على مبارك للتنازل عن جزء من سيناء، وفقاً لصحيفة الشرق الأوسط. ويعمل الدمار الهائل والمتكرر لغزة على منح ميزة إضافية لإسرائيل بحيث تبدو وكأنها تسمح للقاهرة بإلقاء عرضها بمنح شريحة صغيرة من سيناء للفلسطينيين كبادرة إنسانية تمس الحاجة إليها.
يتطلب نجاح هذا النهج الإسرائيلي عزل غزة من خلال فرض حصار، وعبر إلحاق أضرار جسيمة بها من أجل تشجيع الفلسطينيين على إعادة النظر في معارضتهم لفكرة إقامة دولة خارج فلسطين التاريخية. وينسجم هذا بالضبط مع السياسة الإسرائيلية السارية منذ العام 2007.
ربما يكون من الصعب تأكيد خيار سيناء في هذه المرحلة، ولكننا يجب أن نبقيه ماثلاً في الذهن بقوة بينما نحاول فهم الأحداث التي تتكشف في المنطقة على مدى الأشهر والسنوات المقبلة.
جوناثان كوك* – (كاونتربنتش)
*فاز بجائزة مارثا جيلهورن الخاصة للصحافة. أحدث كتبه: “إسرائيل وصدام الحضارات: العراق، إيران وخطة إعادة تشكيل الشرق الأوسط” (مطبعة بلوتو)، و”فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في البؤس الإنساني” (كتب زد).