مع اقتراب الموعد المحدد لانسحاب القوات الاميركية من افغانستان نهاية السنة، اتخذت المواجهة الروسية-الاميركية لفرض السيطرة وتوسيع النفوذ في جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة أشكالاً اقوى وأكثر تسارعاً، وإن ظلت تحركات الجانبين في غالبيتها تجرى بعيداً من وسائل الإعلام، وتدور النقاشات الاساسية بين الاطراف خلف ابواب مغلقة.
ولم يكن خافياً في اي وقت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ان المحاولات الاميركية المتواصلة لاقتحام «الحديقة الخلفية» لروسيا والتمركز فيها، اتخذت بعداً استراتيجياً بالنسبة إلى واشنطن، في اطار سياسة «الاحتواء والتطويق» لروسيا، بالإضافة إلى الاهمية الخاصة للمنطقة كونها نقطة ارتكاز اساسية لتوسيع النفوذ في شرق آسيا.
ويكفي ان الولايات المتحدة نجحت حتى العام 2001 في نشر قواعد عسكرية اميركية في كل من قيرغيزستان وأوزبكستان وعقدت اتفاقات لتسهيل تحركات الطيران الاميركي العسكري في أجواء طاجيكستان مع السماح بالهبوط في المطارات الطاجيكية.
لكن مرحلة التوسع الاميركي في المنطقة التي ارتبطت بالوجود العسكري القوي في افغانستان قوبلت بنشاط روسي محموم لتضييق الخناق على الاميركيين توّج نهاية العام الماضي بقرار قيرغيزستان اغلاق قاعدة «ماناس» الجوية والطلب من الاميركيين مغادرتها.
ولم تخف واشنطن خيبة أملها بسبب قرار قيرغيزستان اغلاق قاعدة «ماناس»، اذ كانت تعول على إبقاء جنودها في هذه القاعدة لسنوات طويلة مقبلة، على رغم المخاوف من التقلبات التي قد تهدد الاستقرار السياسي في بلد متوتر اصلاً وشهد سلسلة ثورات وحركات تمرد. وكانت السفيرة الأميركية فى قرغيزستان باميلا سبراتلين أعلنت أن إخلاء القاعدة وتسليمها الى الجانب القيرغيزي سيتمان قبل حلول نهاية الشهر الماضي، علماً أن المهلة التي منحتها الحكومة القيرغيزية للجانب الأميركي تنتهي في 11 تموز (يوليو).
وقال نائب وزير الدفاع القيرغيزى زامير سويركولوف إنه تم الاتفاق مع الجانب الاميركي على تسليم عناصر الحرس الوطنى القيرغيزى القاعدة، مشيراً إلى أن العسكريين الأميركيين تركوا ممتلكات وبنى تحتية بقيمة 30 بليون دولار، ما يؤشر إلى أن واشنطن كانت تنفق وهي واثقة من بقائها طويلاً في القاعدة التي كانت نقطة ارتكاز مهمة لدعم قوات التحالف فى أفغانستان.
شكل القرار ضربة قوية للمؤسسة العسكرية الاميركية التي تستعد لترتيب امور وجودها العسكري في المنطقة بعد الانسحاب من افغانستان. وأدى الى إطلاق جولات من النقاشات المتوترة لتعويض القاعدة المفقودة حملت واشنطن الى اوزبكستان البلد الجار الذي بات مرشحاً ليكون المركز الاساسي للوجود العسكري الاميركي في المنطقة بعد افغانستان التي ستحتفظ فيها واشنطن بقواعد عسكرية عدة.
وشهدت الاسابيع الاخيرة سلسلة زيارات قام بها مسؤولون في الادارة الاميركية إلى طشقند على امل تسريع وتيرة النقاشات والتوصل الى اتفاقات تقطع الطريق على الضغوط التي تمارسها موسكو على الاوزبكيين لعدم القبول بوجود عسكري اميركي.
العودة إلى «خان أباد»
وعلى رغم التغطية على مضمون المحادثات التي تجريها الوفود الزائرة إلى طشقند، لكن اللافت أن الزيارات المتعاقبة قام بها مسؤولون من المستويين العسكري والسياسي – الديبلوماسي، وتشير تسريبات إلى ان الطرفين باتا قريبين جداً من التوقيع على اتفاق بشأن عودة الأميركيين إلى اوزبكستان، علماً أن الوجود العسكري الاميركي في هذا البلد كان بدأ في العام 2001 عندما تمركزت القوات الاميركية في قاعدة «خان اباد» الاستراتيجية قبل ان يغادروها في العام 2005 بسبب انتقادات وجّهتها الادارة الاميركية الى نظام الرئيس اسلام كريموف الذي قمع بعنف تمرداً في منطقة انديجان.
وكانت الشرارة التي انطلقت في أيار (مايو) 2005 من منطقة انديجان امتدت الى مناطق شرق اوزبكستان واتخذت أبعاداً إثنية وقالت السلطات انها كادت ان تتحول حرباً اهلية واسعة النطاق، وأسفر التدخل العنيف من جانب الجيش عن مقتل وجرح الآلاف، قبل ان يسيطر على الوضع، وحوكم في وقت لاحق مئات الاشخاص بتهم تدبير انقلاب عسكري.
في ذلك الوقت انتقدت واشنطن بقوة قرار «الحسم العسكري» وتحدثت عن انتهاكات جسيمة ارتكبتها السلطات، ما ازعج الرئيس اسلام كريموف الذي كان متوجساً من تكرار سيناريو «الثورات الملونة» في بلده، واتخذ قراراً سريعاً بعد التشاور مع الروس بإلغاء اتفاق طويل الامد للوجود العسكري الاميركي في قاعدة «خان اباد».
وكانت الولايات المتحدة انجزت عمليات تحديث واسعة في القاعدة اشتملت على إنشاء بنى تحتية ومد مدرجات حديثة للهبوط والإقلاع، وتزويد القاعدة بوسائل اتصالات متطورة، وباتت «خان أباد» تعد الأضخم والأكثر تطوراً بين القواعد العسكرية في المنطقة، ورابط فيها بشكل دائم نحو 30 طائرة ضخمة مخصصة للشحن والإمداد ومقاتلات من طراز أف15 وأف16 ونحو 1300 جندي.
واعتبر ديبلوماسيون اميركيون عملوا في المنطقة في وقت لاحق ان بلادهم ارتكبت خطأ بالغاً في طريقة تعاملها مع احداث ابيدجان وكادت ان تخسر حليفاً اساسياً مهماً في المنطقة ناهيك عن خسارة القاعدة العسكرية. إذ ظل نظام كريموف منذ انهيار الاتحاد السوفياتي محافظاً على علاقات وطيدة مع واشنطن على رغم انه لم يقطع يوماً الخيوط القوية التي ربطته بموسكو. ويعتبر بعضهم ان تحركات واشنطن الحالية لإعادة الاعتبار الى علاقاتها مع اوزبكستان تكتسب بعداً استراتيجياً في اهميته ليس فقط بسبب مسألة الانسحاب من افغانستان بل وللتأسيس لوجود سياسي وعسكري قوي وطويل الامد في المنطقة هذه المرة.
وقال لـ «الحياة» ألكسندر كنيازيف الخبير في شؤون آسيا الوسطى ان واشنطن تدرس مع الجانب الاوزبكي حالياً خيارات عدة، وبالإضافة إلى قاعدة «خان أباد» يجرى الحديث عن قاعدة «تيرميز» على الحدود الاوزبكية- الأفغانية ومطار «نوفاي» العسكري. ويرى الخبير أن واشنطن تضع جهدها الاساسي لاستعادة «خان اباد».
وفي واحدة من زياراته الاخيرة إلى طشقند، قال نائب وزير الخارجية الاميركي وليام بيرنز ان القوات الاميركية التي ستغادر افغانستان وتنشر في مناطق اخرى ستكون لها مهمات اساسية، بينها مواصلة عمليات التدريب وتقديم المشورة للقوات الافغانية، وفي كلماته اشارة واضحة إلى واحدة من مهمات القاعدة العسكرية الأميركية التي ستفتتح في اوزبكستان اذا توصل الطرفان الى اتفاق.
لماذا اوزبكستان؟
لم يأت اختيار اوزبكستان لتتحول الى مركز اساسي للوجود العسكري الأميركي في المنطقة بمحض الصدفة، خصوصاً مع الخبرة الاميركية السابقة في التعامل مع طشقند.
فالبلد الذي شهدت علاقاته مع روسيا فتوراً ملموساً خلال الفترات الاخيرة، وصل منتصف العام الماضي الى درجة انسحاب طشقند من معاهدة «الامن الجماعي» وهي الذراع العسكرية – الامنية لرابطة الدول المستقلة، وبدء الترويج لـ «الطريق الخاص لأوزبكستان»، في اشارة إلى تصاعد حال الحذر حيال مشروعات وخطط روسيا في الفضاء السوفياتي السابق، والنظر اليها بنوع من الشك وباعتبارها لا تتفق مع معايير السيادة الوطنية، وانعكس ذلك في رفض الانضمام إلى الاتحاد الجمركي، الذي جمع روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان، وتحول لاحقاً إلى مشروع لبناء اتحاد اقتصادي امتنعت طشقند عن حضور مناقشاته.
وشهد الشهران الاخيران تسارعاً في التطــــورات، فقد ذهبت اوزبكستان في أيـــار (مايو) إلى افتتاح ممثلية دائمة لحلف شمـــال الأطلسي، واعتبرت هذه الخطوة المـــرحلة الثانية التي تدل الى نية لتوسيع الطلاق السياسي مع موسكو. وحملت كلمــــات الممثل الخاص للأمين العام للحلف في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى جيمس اباتوري في حفل افتتاح الممثلية دلالات مهمة، فهو قال ان الحلف سيساعد طشقند على إجراء اصلاحات عسكرية شاملة يتم من خلالها تحديث الهياكل العسكرية وتطوير انظمة التدريب والتعليم.
بعد ذلك، جاءت زيارة وزير البحرية الاميركي راي مابوس الى طشقند لبحث سبل توسيع التعاون في المجالات المختلفة، اللافت ان التركيز تم خلال محادثات الوزير الاميركي على «أحجام ونوعيات التقنيات العسكرية اللازمة لتطوير قدرات اوزبكستان» وسرعان ما ظهرت بعد الزيارة اللائحة التي عرفت باسم «لائحة مابوس» وهي اشتملت على وسائل لمكافحة الألغام وتقنيات للرصد والمراقبة، وللتصوير من الجو وتقنيات للرؤية الليلية، وأدوات للتنصت بالإضافة إلى تقنيات لمراقبة الانترنت وتتبع شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها. وإكثر ما يلفت في هذه اللائحة ان كل ما احتوته مخصص للاستخدام المزدوج، بمعنى انها يمكن ان تكون تجهيزات موجهة لمكافحة خطر تمدد «طالبان» في آسيا الوسطى بعد الانسحاب الاميركي نهاية العام، لكن الخبراء يستبعدون على المدى المنظور وقوع مواجهة مع «طالبان»، ما يعني ان الاستخدام الواقعي لهذه التقنيات سيكون في الداخل الأوزبكي وتحديداً ضد القوى المتشددة التي تنشط في مناطق جبلية وعرة على الحدود وأبرزها «حزب اوزبكستان الاسلامية».
مواجهة موسكو وواشنطن تشتد
كما ستستخدم التقنيات الاميركية ضد المعارضة في الداخل، لكن الاخطر وفق خبراء في روسيا ان طشقند سيكون في مقدورها استخدام هذه التقنيات في المناطق الحدودية مع البلدان المجاورة. هكذا يبدو المشهد اكثر وضوحاً، ففي حال نجح الطرفان في توسيع هذا التعاون ستكون واشنطن أصلحت الخطأ الجسيم الذي وقعت به في العام 2005 واتجهت لتعزيز قوة النظام في طشقند في مقابل تحول البلد الى قاعدة ارتكاز اساسية لها في المنطقة، خصوصاً ان مصادر حلف الاطلسي تشير الى وعود بمنح جزء كبير من الآليات التي سيتم سحبها من افغانستان للأوزبكيين.
وقال لـ «الحياة» في اتصال هاتفي الخبير العسكري الاوزبكي عادل عثمانبيتوف ان الحرب الافغانية اسفرت عن تعزيز الوجود الأميركي والاطلسي في المنطقة على مدى 13 سنة، ومن الطبيعي ألا تتراجع واشنطن وهي تفكر بالانسحاب من افغانستان عن هذا التوجه، بل على العكس ستعمل على تعزيز هذا الوجود بالتعاون مع اوزبكستان وقيرغيزستان، في اشارة واضحة الى ان الاميركيين يواصلون العمل مع القيرغيزيين لاستئناف التعاون العسكري في المجالات المختلفة.
ووفق الخبير، فإن هذا التطور «ينسجم مع الخط المستقل لسياسة كريموف القائمة على ضمان الامن والاستقرار في الاقليم عبر تحقيق توازن فعال».
في مقابل هذا الرأي، برز في روسيا اتجاه يحذر كريموف من الاعتماد على الاميركيين، وينذره بعواقب سلبية على نظامه، وبين الاصوات التي علت أخيراً من حذر في تسريبات نشرتها وسائل إعلام روسية من ان «الاميركيين يعدون لإطاحة نظام كريموف وإيصال قوى مؤيدة للغرب الى السلطة».
تدل هذه «التحذيرات» التي ظهرت في صحف حكومية وأخرى معارضة اسمياً لكنها موالية للكرملين في الواقع مثل صحف الحزب الشيوعي الروسي إلى تعاظم المخاوف لدى الروس من مستقبل العلاقات بين طشقند وواشنطن، والسعي إلى إفشال التقارب بوسائل عدة.