
الوقت أصبح ملحًا أكثر من أيّ وقت مضى، لتشكيل هيئات وجبهات ولجان شعبية، مهمتُها مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، يشارك فيها النخبة من العلماء والمثقفين والكتّاب والشعراء والصحفيين وفئات الشعب المختلفة، نظرًا لخطورة هذا التطبيع على المجتمعات العربية؛ لأنّ التطبيع في بعض الدول لم يقتصر على مجرد إقامة علاقات دبلوماسية فقط؛ بل تعدى إلى إعطاء الضوء الأخضر للصهاينة بأن يتغلغلوا إلى مفاصل الوطن المختلفة، بما يشبه التطبيع الشعبي القسري أو الإلزامي، وهذا بدوره أصبح يشكل تهديدا للأمن الوطني والإقليمي.
كلمةُ حق تقال إنّ الشعوب العربية ترفض رفضًا قاطعًا أيّ شكل من أشكال التقارب والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وخيرُ مصداق على ذلك، مقالات الكتّاب والصحفيين، وتلك المظاهرات التي خرجت في معظم الدول العربية التي أقامت علاقات مع الكيان الصهيوني. والشعوبُ التي لم تخرج فبسبب الخوف والقمع الشديد، وليس بسبب موافقتها على التطبيع؛ ولكن الأمر اتجه الآن اتجاهًا آخر، عندما أعطيَ الصهاينة ما لم يحلموا به؛ إذ فتحت بعض الحكومات الباب على مصراعيه للإسرائيليين بأن يتجنّسوا بجنسياتها، وأن يمسكوا بزمام الأمور في كلّ القطاعات العسكرية والأمنية والمدنية والاقتصادية، حتى وصل الأمر إلى تغيير المناهج الدراسية، وتغيير الإجازات الأسبوعية على حساب صلاة الجمعة، وتغيير قوانين الجنسية وقوانين الأحوال المدنية، بما يتماشى مع الوضع الجديد، حيث أفادت الأخبار أنّ نحو 5 آلاف إسرائيلي حصلوا على جنسية الإمارات خلال الأشهر الماضية بعد تعديل قوانين منح الجنسية تحت غطاء الاستثمار، وهو ما يشكّل خطورة كبيرة على المجتمعات الخليجية، التي تسمح قوانينُ دولها بالسماح للمواطنين الخليجيين بالتنقل بلا تأشيرة مسبقة، وبالتملك والاستثمار، ممّا يستدعي الحذر والانتباه من مثل هؤلاء الذي سيسعون بالتأكيد إلى اغتنام الفرصة لإثبات وجودهم في هذه المنطقة؛ وهو ما أشار إليه المحلل الإسرائيلي تسفي بارئيل في صحيفة هآرتس العبرية في الأول من شهر فبراير الماضي عندما قال “إنّ الحصول على جنسية الإمارات فرصة للإسرائيليين، ليس فقط للعمل في أبو ظبي؛ بل للحصول على جنسية ستمكّنهم من زيارة دول محظور عليهم زيارتها”. وتكمن الخطورة أيضًا فيما ذكرته الصحيفة من أنّ مَن يتجنس بالجنسية الإماراتية، “يمكنه أيضًا الاحتفاظ بجنسيته الأصلية بموجب التعديلات الأخيرة”؛ وكلُ ذلك يشير إلى أنّ خطر التطبيع تعدى الدول المطبِّعة وامتد إلى الدول الأخرى.
أنا هنا لستُ بصدد الحديث عن الدول الأخرى وسياساتها فهي أدرى بها وبمصلحتها، وذلك شأنها ولا شأن لي به، ولكني أناقش الخطورة التي سيشكلها مثل هؤلاء المجنّسين عندما تنطبق عليهم الشروط التي تنطبق على مواطني دول مجلس التعاون؛ إذ يحقّ لهم أن يسرحوا ويمرحوا ويتملّكوا الأراضي والعقارات ويستثمروا، حالهم كحال المواطن الخليجي، الذي له حق التملك والإقامة بحريّة دون اشتراط مدة محددة في أي دولة، ودون قيود على المناطق التي يمكنه أن يتحرك فيها، وتكون الخطوة التالية أن يبنوا ما يشبه المستوطنات، وما يتبع ذلك من الآثار كبناء الكنس والمطالبة بتغيير المناهج الدراسية، وعدم بث آيات قرآنية معيّنة – كما سبق لهم أن فعلوا ذلك مع مصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد – وقد صمد المصريون، فهل نستطيع نحن ذلك؟!
وحصولُ الإسرائيليين على الجوازات الخليجية يستدعي الآن بكل قوة إعادة النظر في القوانين التي تسمح بحريّة التنقل وحريّة التملك، لأنّ هاتين النقطتين ستخدمان المجنسين الصهاينة، ولات حين مندم.
ولكي لا أذهب بعيدًا فإني أعتمد في مقالي هذا على رأي الدكتور عبد الخالق عبد الله، الذي يشار إليه بأنه مستشار ولي عهد أبو ظبي، الذي حذّر في 30 يونيو 2021 من أنّ “المشهد السكاني الذي يتأسس لـ50 سنة قادمة، سيكون مختلا وغريبًا”، دون أن يذكر تجنيس إسرائيليين. وذكر في تغريدة له أنّ “مئات ممن حصلوا على جنسية الإمارات مؤخرًا، لا يتحدثون العربية؛ وأبناؤهم لا يبذلون الجهد لتعلّمها، ولا علاقة لهم بالإسلام ولا يعرفون عادات وتقاليد وقيم الإمارات، وأُعطوا حق الاحتفاظ بجنسيتهم الأصلية، ولا نعرف مدى ولائهم للدولة”.
نحن إذًا أمام وضع جديد، يستلزم تضافر كلّ الجهود للحيلولة دون سيطرة الصهاينة على مقدراتنا؛ والأمرُ سهلٌ جدًا، لتطبّع الحكومات – إذا أرادت ذلك – وليكن للشعوب رأيُها ولن يلزمها أحدٌ بشيء، فأيُ شعب إذا أراد شيئًا لا بد أن يتحقق حتى لو كان على المدى البعيد. وهناك بوادر إيجابية مبشرة تدلّ على وعي الشعوب العربية لخطورة التطبيع، حيث أطلق شباب خليجيون ائتلافًا لمناهضة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي وداعمًا للقضية الفلسطينية، يسعى لتكاتف الجهود بين أهل الخليج لمواجهة التطبيع، وجاء إنشاء الائتلاف – حسب الموقع الرسمي له باسم “الخليج ضد التطبيع” في ظلّ المرحلة الحرجة، وستكون منصةً للتنسيق تبني على النشاطات السابقة في المنطقة العربية والتي سعت لمناهضة التطبيع ودعم القضية الفلسطينية.
والائتلاف ليس هو النقطة المضيئة الوحيدة، فهناك جماعات وأفراد يعملون على مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني في دول الخليج العربي، ومن هذه المجموعات “شباب قطر ضد التطبيع”، “شباب لأجل القدس”، “حركة مقاطعة الكيان الصهيوني”، التي تهدف إلى سحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه في الكويت، و”الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع”، هذا بالتأكيد خلاف الحراكات الأخرى في الوطن العربي، التي باتت تعلم علم اليقين الخطورة التي يسببها تطبيع بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، مثل الحملة المغربية لمحاربة “الغزو السياحي” الإسرائيلي، التي انطلقت تحت شعار “لا للصهيوني في بلدي”، احتجاجًا على انطلاق الرحلات السياحية بين المغرب وإسرائيل.
على ضوء ما تقدّم أصبح من الضروري العمل على رفض التطبيع خليجيًا وعربيًا بجهد أكثر تنظيمًا وتأثيرًا، درءا للمخاطر التي يشكلها هذا التطبيع على الأوطان والشعوب، وليكون الضغط الشعبي عونًا للحكومات التي ترفض التطبيع، ولكنها قد تلجأ إليه مضطرة بسبب الضغوطات الدولية.
——-
* كاتب عماني، مؤلف كتاب “الطريق إلى القدس”.
عن صحيفة “عُمان”