ثمة تقارب إسرائيلي تركي لا تخطئه العين يحدث حالياً. ولكن، وعلى غير ما كان عليه الحال في أوج تحالفهما السياسي في الثمانينيات (من القرن الماضي)، من المرجح أن تكون العلاقة المنقحة الجديدة أكثر احتراساً، وأنها ستشكل تحدياً أكبر لتركيا مما ستشكل لإسرائيل.
وقد أحالت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى تقرير للصحيفة التركية “راديكال” بكثير من الاهتمام فيما يتعلق بمباحثات سرية تجري بين تركيا وإسرائيل، والتي يمكن أن تفضي إلى تقديم اعتذار إسرائيلي عن الغارة التي شنتها قواتها البحرية على سفينة أسطول المساعدات التركية “مافي مرمرة” التي كانت في طريقها إلى غزة في أيار (مايو) من العام 2010. وكان الهجوم قد أسفر عن مقتل 9 ناشطين أتراك، بمن فيهم مواطن أميركي.
وكان ذلك الهجوم قد جلب أزمة لم يكن لها مثيل من قبل منذ نشوء التحالف التركي الإسرائيلي الذي بدأ في العام 1984، والذي أعقبته بشراكة استراتيجية كاملة في العام 1996. لكن تلك الأزمة لم تبدأ بالضرورة مع الهجوم المميت على “مافي مرمرة” أو مع الإهانات الإسرائيلية السابقة لتركيا. كما أنها لم تبدأ مع ما يسمى بعملية الرصاص المصبوب الإسرائيلية ضد قطاع غزة المحاصر في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2008، والتي أسفرت عن مقتل وجرح الآلاف من الفلسطينيين الذين كان معظمهم من المدنيين.
وفق تقرير “راديكال” (الذي نشر يوم 20 شباط – فبراير، واستشهدت به صحيفة هآرتس الإسرائيلية بعد يومين)، فإن إسرائيل ترغب في تلبية شرطين من شروط تركيا لاستئناف الروابط الكاملة: تقديم اعتذار، وتعويض لعائلات الضحايا. وقالت صحيفة هآرتس مستشهدة بصحيفة “راديكال” أن “تركيا طالبت أيضاً بأن ترفع إسرائيل حصارها” المفروض على قطاع غزة، “لكنها مستعدة لإسقاط ذلك الطلب”.
وليست التقارير عن المباحثات السرية جديدة. وكانت تقارير مشابهة قد طفت على السطح في جنيف والقاهرة. وكانت المصالحة التركية-الإسرائيلية قد ظلت، لفترة على الأقل، بنداً مهماً مدرجاً على أجندة السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، وحتى شهور قليلة مضت عندما دفعت الانتخابات الرئاسية الأميركية بكل شيء إلى المقاعد الخلفية. لكن، وعلى الرغم من الخطاب الناري، فإن الإشارات إلى ذوبان جليد النزاع تبدو واضحة. وفي مقال له نشر في صحيفة “الأهرام ويكلي” يوم 16 كانون الثاني (يناير) الماضي، قال جلال نصار أن تل أبيب تعمل “طرقها الغريبة لترقيع ما اعتبرته سحابة عاصفة عابرة في العلاقات مع صديقتها وربما حليفتها الاستراتيجية”. وردت تركيا بشكل لطيف بقرارها “رفع اعتراضها على المشاركة الإسرائيلية في النشاطات غير العسكرية للناتو”.
وليست الأنباء المسربة عن تسوية سياسية هي العناوين الرئيسية الوحيدة عن هذا الموضوع، فثمة أيضاً مسألة التعاون العسكري والاقتصادي اللذين يعدان حتى أكثر شيوعاً. ووفق موقع “فلايت غلوبال دوت كوم” يوم 21 شباط (فبراير)، وافقت الحكومة الإسرائيلية على تسليم معدات قياسات دعم إلكترونية “لتركيبها في طائرات البوينغ 737 التابعة لسلاح الجو التركي، لتكون نظام إنذار مبكر وسيطرة محمولاً جوياً”.
وما تزال المجموعة التركية التجارية الضخمة “زورلو غروب” تعمل في الشهور الأخيرة لإقناع الحكومة الإسرائيلية والشركاء في حقل غاز “ليفياثان” بالموافقة على صادرات الطاقة إلى تركيا، كما علم المحرر طبقاً لما ورد في هآرتس يوم 14 شباط (فبراير).
وهذه هي رأس جبل الجليد فقط. وإذا كانت هذه التقارير معقولة حتى جزئياً، فإن العلاقات التركية الإسرائيلية تختبر الترميم حالياً بحذر، وإنما بتصميم. ويتناقض ذلك مع السياسة الخارجية التركية المعلنة والعديد من التصريحات العاطفية لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب اردوغان، وغيره من الساسة الأتراك البارزين.
بعد صلاة الجمعة يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، أوردت صحيفة النيويورك تايمز من إستانبول أن اردوغان نفى وجود أي محادثات بين بلاده وإسرائيل فيما يتعلق بالأزمة التي تسبب فيها هجوم إسرائيلي آخر على غزة. بل إنه ذهب حتى إلى أكثر من ذلك بقوله: “ليست لدينا أي اتصالات فيما يتعلق بالحوار مع إسرائيل”. كما وصف سلوك إسرائيل في غزة، خلال اجتماع برلماني بعد أيام، بأنه “عملية تطهير عرقي”.
ويوم 20 تشرين الثاني (نوفمبر)، كان وزير الخارجية التركية، أحمد داود اوغلو، يقوم بزيارة إلى غزة في زيارة تضامنية، سوية مع وفد من جامعة الدول العربية، في عرض غير مسبوق للتضامن. ومع ذلك، وفي تناقض غرائبي مع روح مهمته، ووفق ما ذكرته التايمز في حينه، فقد “أشار أوغلو للمراسلين الصحافيين بأن ثمة مباحثات فتحت من خلال قناة خلفية مع السلطات الإسرائيلية”.
ولكن، لماذا التناقضات؟ فالتحول التركي ظاهر، وفي حال تم إنجاز التقارب الكامل والتام في الحقيقة، فهل سيكون حزب العدالة والتنمية الحاكم قادراً على صيانة ماركته الناجحة في الشرق الأوسط، والتي تحققت في جزئها الضخم بفضل سياساته المؤيدة لفلسطين؟
هنا، يجب أن نفهم أمراً بشكل مباشر: إن المشاعر القوية والمتنامية المؤيدة لفلسطين في تركيا ليست محصلة أجندة سياسية خادمة للذات: لا أجندة حزب العدالة والتنمية ولا أي أجندة أخرى. وكان الدعم للفلسطينيين قد ظهر أوضح ما يكون في انتخابات حزيران (يونيو) من العام 2011، والتي كسبها حزب اردوغان على نحو مقنع. وكتب ستيفن ايه. كوك في عدد 28 كانون الثاني (يناير) من مجلة أتلانتيك: “لقد صوت الأتراك لصالح قضيتين -محافظ نقودهم وفلسطين”. وأضاف: “إن اردوغان الذي يخطط ليكون رئيس تركيا يوما ما، والذي يعتقد بأن حزب التنمية والعدالة سيكون المهيمن لعقد آخر على الأقل، من غير المرجح أن يكون متقبلاً لتحسن كبير في روابط أنقرة مع القدس”. وإذا كانت مركزية مسألة فلسطين أساسية إلى هذا الحد بالنسبة للوعي السياسي التركي/ فلن يكون من المرجح أن يقامر أي طامح سياسي-مث اردوغان أو داود اوغلو أو الرئيس عبد الله غول- باحتمال تحول رئيسي عن السياسة الراهنة.
وقد يكون ذلك صحيحاً كلية إذا أسقط المرء عامل سورية، والذي عقد سوية مع ما يسمى بالربيع العربي الموقف الإقليمي لتركيا، والذي كان حتى عامين يتضمن الوصول إلى إيران وسورية وليبيا وشركاء شرق أوسطيين آخرين. ولسنوات قبل الاضطراب الراهن، تبنت تركيا بحذر، ولكن على نحو مقنع/ سياسة خارجية جديدة استهدفت موازنة اعتمادها شبه الكلي على الناتو والغرب عموماً. ولذلك رممت روابطها مع جيرانها المباشرين في الشرق، بما فيهم إيران. لكن الاستقطاب الذي خلقته الحرب الأهلية في سورية انهى فصل الموازنة التركي، في الوقت الراهن على الأقل.
يثبت طلب تركيا نشر بطاريات صواريخ الباتريوت على طول حدودها مع سورية، وكذلك دورها في دعم المجلس الوطني السوري، ومحاولتها ضم مجموعات كردية مختلفة في شمالي العراق، أنها جميعاً أمور متساوقة تماماً مع السياسات التركية القديمة. وفي الحقيقة، لا يعدو مبدأ داود أوغلو الداعي إلى صفر مشاكل مع الجيران كونه حاشية تاريخية.
لقد أعادت الحرب السورية وضع تركيا مجدداً في داخل المعسكر الغربي، ولو أن ذلك ليس بصرامة الماضي، عندما أسقط جنرالات تركيا كل التحالفات الأخرى لصالح الناتو. ويشكل ذلك فُرجة بالنسبة لإسرائيل، والتي يرجح، مع الدعم الذي تتلقاه من جانب الإدارة الجديدة للرئيس الأميركي باراك أوباما، أن تترجم إلى بعض الإجراءات التطبيعية. وستعتمد درجة ذلك التطبيع بشكل كبير على أي وجهة ستتخذها الحرب الأهلية السورية، ودرجة تقبل الشارع التركي لرؤية إسرائيل وهي تُعرض مرة أخرى على أنها الشريك الاستراتيجي لتركيا.
وفي الأثناء، يشير بعض المعلقين إلى أن سياسة مصر الخارجية الخاصة تجاه إسرائيل –حيث تشكل مصر راهناً البلد الشرق أوسطي الرئيسي الذي يتوافر على الرافعة للتحدث مع كل من إسرائيل والفلسطينيين- إنما تحرم تركيا من اتخاذ موقف مساومة صلب وقوي في داخل الناتو. فبسبب عدم وجود اتصالات مفتوحة مع إسرائيل، يشير البعض إلى أن تركيا تخسر التفضيل عند الولايات المتحدة والشركاء الغربيين الآخرين. ولعل مما تجدر ملاحظته أن اعتذار إسرائيل المخطط له، وفق صحيفة -راديكال- ربما يأتي متزامناً مع زيارة أوباما لإسرائيل في أواخر الشهر الحالي.
لا تبدو تركيا وإسرائيل، ولا الولايات والناتو، قادرين على إدامة الوضع الراهن-استمرار وجود الشق بين إسرائيل وتركيا- لأمد أطول. لكن العودة إلى نموذج قديم، حيث لا تعود تركيا مدافعاً عن الحقوق الفلسطينية وبطلة ممجدة لحمل القضايا العربية والإسلامية، قد تثبت أنها حتى أكثر كلفة. لن يكون هناك إجابات سهلة، خاصة وأن المنطقة تبدو وأنها تتغير جزئيا من خلال ديناميات لا يمكن التنبؤ بها.
قد يقوم اردوغان وحزبه بتلفيق إجابة ما في نهاية المطاف. ويمكن لتلك الإجابة أن تضم إسرائيل ومجموعة جديدة من الموازنات التي ستتيح لهم الوصول إلى الشرق والغرب على حد سواء. لكن مثل تلك الإجابة ربما لن تكون السياسة المستقيمة عالية التدبير التي ينافح عنها اردوغان بثبات، وإنما بدلاً من ذلك تلك السياسات القديمة الخادمة للذات، ولا شيء آخر.
(ذا بالستاين كرونيكل) -ترجمة: عبد الرحمن الحسيني- الغد الأردنية.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان:
Turkey’s Difficult Choice in Palestine, Israel
abdrahaman.alhuseini@alghad.jo