ماكس بومنثال كاتب صحفي ومدون أميركي من أصل يهودي وابن أحد كبار مسؤولي البيت الأبيض في عهد بيل كلينتون. عمل بلومنثال سابقاً ككاتب ومراسل صحفي لعدد من الصحف ووسائل الإعلام الرئيسية، كما له مؤلفات عدة حاز من خلالها على لقب “New York Times Bestselling Author” كان آخرها كتاب “Goliath” أو “الجالوت” الذي اشتهر لاعتباره أكثر الكتب إثارة للجدل خلال سنة 2013 عبر تسليط الضوء على الحياة في ظل الحقد والكراهية في ما يسمى “بإسرائيل الكبرى”. هو الكتاب الذي أثار سخط وغضب إسرائيل ومؤيديها في أميركا، حيث تناول وبكل جرأة ودون أي تردد، صورة المجتمع الإسرائيلي العنصرية ووحشية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إضافة الى استبدادية السياسات الإسرائيلية الاستعمارية بحق الشعب الفلسطيني عقب انهيار ما يسمى بعملية “اوسلو” للسلام. يفضح بلومنثال في كتابه تغول إسرائيل بصهيونيتها اليمينية المتطرفة وتضحيتها بالديمقراطية على مذبح العنصرية ولهيمنة العسكرية، إضافة الى استغلال “الهولوكوست” أو المحرقة كتبرير لاحتلالها لفلسطين وإمعانها في تربية أجيال من اليهود الصهاينة المتعصبين وتلقينهم شتى أشكال الكراهية والحقد ضد الفلسطينيين. يبين بلومنثال في كتابه أيضاً كيف أن إسرائيل، الدولة الوحيدة في العالم التي لا تعترف بحدود مرسومة لها، تمعن في نهج مبادئها الاستعمارية القائمة على مفهوم “إسرائيل الكبرى” التي لا يمكنها مهادنة جيرانها من العرب أو الفلسطينيين سكان أرض فلسطين التاريخية أو العيش المشترك و بناء سلام عادل ودائم معهم، إضافة لعبثية المفاوضات أو المعاهدات مع هذه الدولة العنصرية القائمة على التوسع المستمر عبر احتلال وقضم ملكيات الغير وسلب الحقوق”.
“الجالوت” أو”Goliath”
وبالعبرية “جوليات” عنوان كتاب ماكس بلومنثال، هو ذلك المحارب والعملاق الفلسطيني الجبارالذي ورد ذكره في التوراة (العهد القديم)، وبشكل مختصر في القرآن الكريم، وقام الملك داوود بقتله في ملحمة تاريخية شهيرة كانت نتيجتها تتويج داوود ملكاً على إسرائيل بصفته (التوراتية) بطلاً من أبطال الله. (المترجم)
أجرى الحوار مع ماكس بلومنثال الصحفي جوشوا فرانك، وترجمه
بتصرف: سيف الدين البيطار
* يبدو أن كتابك “الجالوت” قد تسبب بضجة كبيرة ضدك من قبل اليمين الصهيوني المتطرف وآخرين من الليبراليين المدافعين بشراسة عن إسرائيل مثال زميلك إريك ألترمان. ما هي حقيقة هذه الضجة التي أثيرت ضدك وضد كتابك؟
– كتابي “الجالوت” هو عبارة عن صورة صحفية هي الأولى من نوعها، وذلك لتناول الكتاب حقيقة إسرائيل التي تم تبييض سمعتها والتستر على واقعها عبر وسائل الإعلام الرئيسية في أميركا. يكشف الكتاب عن مجتمع تجاوز كل حدود التطرف والعنصرية العلنية وبأقبح درجاتها وبتحريض من أعلى مستوياتها الحكومية عبر أعمال عنف وكراهية معادية للعرب. قدمت في كتابي العديد من الأحداث المحورية بتفصيل دقيق والتي تم تجاهلها كلياً بل ومحاولة دفنها وصرف النظر عنها من قبل صحيفة نيويورك تايمز ومن قبل وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية الأخرى.
عبر صفحات كتاب “الجالوت”، رسمت ملامح الصورة الفاشية الواقعية لإسرائيل تماماً، كما قام العديد من الصحفيين الإسرائيليين المخضرمين برسمها دون مواربة أو تعصب. من خلال تجربتي لسنة تقريباً على أرض الواقع في إسرائيل – فلسطين، استطعت التقاط شعور هؤلاء الصحفيين بالمناخ الإسرائيلي العام ومن ثم بلورة هذا الشعور عبر صفحات كتابي. دون ادنى شك، لم يكن أولئك المتعصبون في تأييدهم الأعمى لإسرائيل سعداء جداً بما كتبت.
في واقع الأمر، لم أكتب “الجالوت” وأنا قلق حيال آلام “الروح” المعنوية الإسرائيلية، كما لم يكن لدي ذرة إيمان بالدولة اليهودية أو بأي اعتقاد راسخ في أن إسرائيل الموجودة خلف خط الهدنة لعام 1949 هي دولة ديمقراطية تنبض بالحياة. كما رفضت التشدق بفكرة ملامة الفلسطينيين ولو بشكل جزئي على مأساتهم، أو اعتبار أن كلا الجانبين يتحملان مسؤولية هذه الأزمة. هذا بالذات ما هو متوقع منك القيام به إن رغبت في مخاطبة الرأي اليهودي الأميركي من منظور ليبرالي. لم أمتنع عن نهج هذا الأسلوب فقط لأني أرفض الرواية الصهيونية ومبادئها، بل أيضاً لأني أرفض نهج الصهيونية غير الأخلاقي الذي يرتكز على تزوير الماضي وتشويه الحاضر بخبث غير شريف. بالرغم من ذلك، وبالرغم من رفضي الالتزام بالكتابة ضمن إطار الصهيونية الليبرالية في سرد الوقائع، رأى الكثيرون في “الجالوت” تهديداً للأفكار الصهيونية، الأمر الذي لم يمنع كتابي من اكتساب مصداقية كبيرة وإنتشار واسع.
لقد قمت بفضح إسرائيل دونما عاطفة أو حنين، كما قمت برسم الملامح الاستعمارية لدولة تتحكم بمصير شعب ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط عبر نظام فصل عرقي وعنصري. دولة توسعية استعمارية لا حدود مرسومة لها حتى الآن. البعض من أولئك الذين اعتادوا على السرد الصهيوني الليبرالي المبتذل وجدوا في الصورة الواقعية التي رسمتها لإسرائيل بالأمر المؤذي وغير المريح. كذلك، شعر المحافظون الجدد وغيرهم من المؤيدين لإسرائيل بالحرج الكبير. أما اولئك الذين حاولوا القضاء على كتابي وتقويض سمعته، فلم يكن بمقدورهم تحدي الكتاب على أسس موضوعية أو دحض مضمونه ووقائعه الجوهرية بأي شكل من الأشكال.
* ما هو ذلك الشيء الذي يجعل النفوس تغلي وتثور كلما تم انتقاد إسرائيل؟
ـ لو نجح الصهاينة في بناء دولة ديمقراطية تتمتع بعلاقات طبيعية مع جيرانها من الدول، لاستطاعت الماكينة الإعلامية الدولية وبالنيابة عن إسرائيل من تقويض كافة الانتقادات الموجهة لإسرائيل بل وسحقها بشكل تام. لسوء حظهم، لم يتمكنوا من تحقيق ذلك بسبب حقيقة مبادئ الحركة الصهيونية العنصرية وابتعادها كل البعد عن فكرة تحقيق ديمقراطية تتمتع بعلاقات طيبة مع جيرانها. فإسرائيل هي محصلة ونتاج المشروع الاستيطاني الاستعماري الذي يتمحور حول حملة دائمة ومستمرة من الهندسة الديمغرافية العنيفة الموجهة ضد رغبات وتطلعات الشعب الفلسطيني. والمشروع الصهيوني الاستيطاني الاستعماري هذا نراه بأم أعيننا تماماً. وتمعن إسرائيل في فرضه كأمر واقع في صحراء النقب، وتلال الخليل الجنوبية، وعلى طول الجدران المكهربة المحيطة بمنفى قطاع غزة المحاصر. ففي إسرائيل، لا يجد الصهاينة من شيء ليفخروا به سوى التحلي بذات متطرفة من القومية العنصرية العدوانية.
“إسرائيل ما بعد أوسلو” أدخلت المجتمع اليهودي الإسرائيلي في ما يمكن وصفه بمرحلة “الصهيونية الجديدة” وعقيدتها اليمينية المتطرفة التي تم التأسيس لها بعد حرب 1967. تلك العقيدة الداعية لتوطين أكبر عدد ممكن من المهاجرين اليهود في أراضي الضفة الغربية المحتلة. كذلك، أمعنت إسرائيل في نهجها هذا دون أي طموح أو رغبة في تحقيق السلام أو مقتضيات الشرعية الدولية عبر الضغط على أنصارها وداعميها الدوليين لسحق أي معارضة لهذا النهج و بكل الوسائل الممكنة.
تمخضت هذه المرحلة المفصلية للصهيونية وحملاتها الاستيطانية الشبيهة بالحملات الصليبية عن سحق ممنهج لحرية التعبير لكافة المواطنين داخل إسرائيل، إضافة لاستخدام كل الأساليب الكفيلة بلجم وتقييد حرية التعبير في الدول الغربية، وذلك للحد من القدرة على تنظيم حركات تضامن دولية مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني. إن دعوة السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن مايكل أورين للكونغرس الأميركي من أجل تمرير قانون يجرم الأميركيين المتضامنين مع الفلسطينيين أو الذين ينشطون في المنتديات العامة احتجاجاً ضد ممارسات المسؤولين الإسرائيليين، لهو دليل واضح على منهجية الصهيونية الجديدة للحد من حرية التعبيرفي أميريكا ذاتها. ومثال على ذلك، تلك الملاحقات الجنائية التي يواجهها 11 طالباً من طلبة جامعة كاليفورنيا في إيرفاين بسبب مداخلاتهم الاحتجاجية مع السفير الإسرائيلي مايكل أورين لمدة دقيقتين خلال مناسبة عامة. كذلك هي الحال والحملة التي تم شنها ضدي شخصياً والرامية لحظر مناقشة موضوع كتابي “الجالوت” في أماكن ومناسبات عامة عبر الولايات المتحدة الأميركية.
*ينشط الرئيس أوباما حالياً وبالأخص وزير خارجيته جون كيري لتمرير “إتفاقية إطار” تهدف لدفع عجلة مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ماذا بالإمكان توقعه من نشاطهما؟
– لا يمكننا توقع الكثير من ذلك أو مما قام كيري بتقديمه للسلطة الفلسطينية عرضا لا يمكنها القبول به. تفاصيل خطة كيري تتسرب شيئاً فشيئاً، حيث تشي هذه التسريبات بجهود تهدف لتحويل الضفة الغربية المحاصرة لسجن آخر على غرار سجن قطاع غزة. يقوم كيري بترويج متطلبات نتنياهو بما في ذلك تشييد جدار عملاق على طول حدود الضفة الغربية مع الأردن، ما يتيح له محاصرة فلسطينيي الضفة الغربية من الشرق فيما يحاصرهم جدار الفصل العنصري الإسرائيلي من الغرب، تماماً كما صرحت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن “الفلسطينيين سيصبحون مسجونين بين جدارين”. أيضاً، ستقوم الولايات المتحدة بتفويض إسرائيل باستخدام الطائرات بدون طيار للقيام بطلعات دورية تجوب بها المجال الجوي للضفة الغربية على مدار الساعة كما تفعل حالياً في سماء غزة. كذلك، سيسمح للجيش الإسرائيلي بالتواجد على طول حدود الضفة الغربية مع الأردن ولمدة غير محددة. للسخرية، كل ما سبق لا يشبع غليل إسرائيل أو يسد رمق غرورها. فوزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون يقود حملة غضب عارمة من منصبه في مجلس الوزراء الإسرائيلي للمطالبة بضمان تحكم إسرائيل الدائم في غور الأردن – غور الأردن حيث الجزء الأهم من أراضي الضفة الغربية الصالحة للزراعة. أضف على ذلك، المشرعين الإسرائيليين حديثي العهد من أعضاء حزب نتنياهو – مستقبل الليكود – على وشك التقدم باقتراح للكنيسيت الإسرائيلي من أجل ضم غور الأردن لإسرائيل.
لقد قام القائد السابق لقوات الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان الجنرال جون ألين في المساهمة في وضع الخطة والترتيبات الضرورية من أجل تعزيز سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية. ومن السليم الافتراض بأن هذه الخطة ستكون نعمة كبيرة ومصدر رزق هام للشركات الأمنية الأميركية والإسرائيلية التي ستورد أيضاً كافة نظم “الإنذار المبكر” للتجسس على الفلسطينيين بشكل دائم كما هو حال الرقابة والتجسس الدقيق الممارس على قطاع غزة. لا غرابة هنا أن وسائل الإعلام الأميركية لم توجه أي سؤال محرج لجون كيري بما يتعلق وخطته هذه. بدلاً من ذلك، تلقى كيري إشادة كبيرة من جيفري غولدبيرغ “لمودته غير المشروطة للصهيونية والوعد الصهيوني”.
* لقد تضمن كتابك “الجالوت” الكثير من الحقائق على أرض الواقع في إسرائيل. هل بإمكانك الإشارة لبعض تلك الحقائق وأكثرها إثارة للدهشة؟
-لا توجد حادثة أو مناسبة معينة لم أكن على استعداد لها عندما بدأت عملي الميداني المتعلق بمشروع هذا الكتاب. لقد صدمت كثيراً عندما اكتشفت درجة وقدرة إسرائيل على تسخير طراز الليبيرالية الغربية الحديثة لخدمة نظام الفصل العنصري الكامن في نهجها الاستيطاني الاستعماري. في كتاب “الجالوت”، وصفت حادثة حصلت معي في إحدى حانات حي من أحياء تل أبيب الراقية وبالقرب من أحد الأبراج المترفة
و”المسكونة بالأشباح” إضافة للأثرياء من اليهود الأميركيين مثل مارتي بيريتز. كنت أستمع لموسيقى الجاز المتسللة للمكان من أحد نوادي الجاز المجاورة وأنا أرتدي قميصاً تشبع بمخلفات الغاز المسيل للدموع نتيجة لمشاركتي في إحدى المظاهرات المناهضة لجدار الفصل العنصري في وقت سابق من ذلك اليوم. حينها أدركت كم هي فقاعة تل أبيب بحاجة لجدار فولاذي.
لدي الكثير من الذكريات المشابهة. ففي إحدى المرات، كنت أجلس في مطعم يقدم الطعام النباتي وسط مدينة القدس مع سائح فرنسي استضفته في شقتي خلال صيف عام 2010. تصفح السائح الفرنسي مجلة إسرائيلية باللغة الفرنسية وبدأ في ترجمة مقال من الفرنسية يتعلق بالخطورة التي قد تتعرض لها النساء الإسرائيليات إن قمن بمواعدة أحد الرجال من العرب الذين عادة ما يقومون بسحر النساء الإسرائيليات برجولتهم، وكل ما هو معسول من الكلام ومن ثم ضربهن وإيذائهن بل وأخذهن أسيرات. الشعور الذي انتابني حينها وأنا أستمع لأخبار مصبوغة بصبغة عنصرية شبيهة بالصبغة العنصرية التي عشناها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ضد الأميركيين من أصل إفريقي، لكن هذه المرة بلكنة السائح الفرنسية بينما كنت أتناول طبق طعام نباتي فاخر في مطعم يعج بالمستوطنين اليهود. ذلك الشعور لخص تجربتي في إسرائيل بكافة جوانبها وتناقضاتها. كنت حينها أعيش في دولة فصل عنصري حيث تتباهى الفتيات المجندات بسمرة بشرتهن وملابس السباحة المغرية على شواطئ نخلية تبعد فقط كيلومترات قليلة من سجون مخيمات محاطة بالأسوار والأسلاك الشائكة والمليئة بالجياع من اللاجئين. كل يوم قضيته في إسرائيل جعلني أحدق مباشرة بصورة الغرب المبتذلة بحد ذاتها.
* لقد كتب نورمان فنكلستاين حول الصورة المبتذلة لإسرائيل واستغلالها للمحرقة النازية كما قمت أنت بتعريته في كتابك “الجالوت” ايضاً. هل بوسعك التعقيب قليلاً عن ذلك؟
– تطالب دولة إسرائيل بمشاركة مواطنيها اليهود و بشكل كامل في مشروع السيطرة والهيمنة على الفلسطينيين. هذا ليس بالشيء الجذاب وبالأخص لأولئك الشبان الذين يضطرون للالتحاق بالجيش في الثامنة عشرة من أعمارهم. لذلك، يضطر الجيش الإسرائيلي لإيجاد سبل لدعم هؤلاء الشبان معنوياً من أجل التغلب على شكوكهم حيال الحياة العسكرية في خدمة الجيش، بينما تعمل مؤسسات الدولة اليهودية الرئيسية جاهدة على زراعة روح من القدسية الجماعية تجاه الخدمة العسكرية. هكذا، يتم تبييض ممارسات جيش قمع واحتلال استعماري مدجج بالأسلحة النووية كخط دفاع أخير يحول دون إبادة اليهود. في هذا الجيش تتم تعبئة الفتيان والفتيات حال تخرجهم من مدارسهم الثانوية وشحذ هممهم للذهاب الى الضفة الغربية من أجل إخضاع والسيطرة على الغاضبين من العرب الذين يتم تصويرهم كالنازيين من الألمان. فالجندي الإسرائيلي من أولئك المراهقين وإن لم تتم تعبئته وتلقينه روح القدسية العسكرية هذه وبشكل مكثف، فلسوف يسقط في أزمة نفسية شخصية لحظة إقدامه على اقتحام منزل عجوز فلسطيني ما ومن ثم إيقاظه بوحشية وخلعه من فراشه عنوة واستدراجه لإحدى الزنزانات العثة دونما إنسانية. بطبيعة الحال، هناك البعض منهم ممن اضطروا لفعل ذلك ومن ثم الانتهاء بتقديم شهادات مروعة لمجموعات كسر جدار الصمت. لكن المخيف بالأمر أن الكثيرين لا يقدمون اية شهادات بل ويمارسون حياتهم اليومية دونما تأنيب ضمير.
ساهمت عمليات تلقين القدسية هذه في شحذ همم الإسرائيليين وتزويدهم بالدوافع اللازمة للانخراط في الحياة العسكرية. كما هيأت لهم الفضاء السيكولوجي للقبول وتبرير عمليات العنف واعتقال كل من يتم اعتبارهم تهديداً للديمغرافيا الإسرائيلية وحتى لطالبي اللجوء من الأفارقة واحتجازهم في معتقلات شيدتها الدولة العبرية في الصحاري القاحلة دونما محاكمات. فجدار الفصل العنصري الذي تم تشييده على أراضي الضفة الغربية إضافة لحصار قطاع غزة، تم تبريرهما لمنع ما أسماه نتنياهو “بالفائض السكاني” من التمدد الى إسرائيل. من الممكن التعرف على الأثر المحبط لاستغلال “الهولوكوست” أو المحرقة على الإسرائيليين اليهود من خلال استطلاع للرأي العام، حيث أعلن
57.2 % منهم تأييد فكرة “أن الدرس الرئيسي من المحرقة أو “الهولوكوست” هو أننا (الإسرائيليين) علينا الاعتماد على أنفسنا وعدم التردد في استخدام كافة أشكال القوة دون أخذ رأي المجتمع الدولي بأي عين من الإعتبار”.
* كيف يتم تعميم ذلك في النظام التعليمي الإسرائيلي؟
-يرتبط نظام التعليم المدرسي ارتباطاً وثيقاً مع الجيش الإسرائيلي وعلى نحو غير مسبوق منذ انتخاب بنيامين نتنياهو سنة 2009. في كتاب “الجالوت”، قمت بتوثيق عملية تلقين الأطفال من الإسرائيليين ومنذ سن الرابعة على ثقافة النزعة العسكرية والخوف من الغير. قمت بوصف كيف يتم اصطفاف التلاميذ منذ نعومة أظفارهم في مدينة حولون أمام سبورة الصف ليتم إجبارهم على التأمل بالسؤال: “من يريد قتلنا؟”. لقد قمت ايضاً بوصف رحلة ميدانية للمراهقين من التلامذة الى إحدى قواعد الجيش الإسرائيلي من أجل التدرب على إطلاق النار على أهداف ترتدي الكوفية الفلسطينية. كما شرحت كيف يتم استغلال المحرقة أو “الهولوكوست” في تنظيم الرحلات الميدانية الى أوشفيتز والتي يخضع 25 % من طلبة المدارس الثانوية لها قبل عام واحد من إنخراطهم في الجيش.
رحلات المحرقة “الهولوكوست” الميدانية هذه والتي تمت تسميتها “رحلة من هم على قيد الحياة”، وتم تصميمها وبشكل علني من قبل وزارة التعليم الإسرائيلية، تهدف لبث الروح القومية بين الشباب اليهود بما يدعم صورة أكثر دعماً وتأييداً للجيش الإسرائيلي. في فيلم المخرج الإسرائيلي السينمائي يواف شامير الوثائقي المثير للسخط “التشهير” والمتعلق باستغلال معاداة السامية، رافق المخرج مجموعة من الطلاب الإسرائيليين الى أوشفيتز حيث فضح كيف بعد أسبوع من التلقين المكثف، يتم دفع الطلاب لذرف الدموع من شدة الغضب وإعلانهم النفير بحثاً عن نازيين من أجل قتلهم. بطبيعة الحال، فإن جميع النازيين موتى في يومنا هذا، أو لربما تم تجميد أدمغة بعض منهم في مختبرات الفيزياء في مكان ما من ادغال الباراغوي. بالنتيجة، كل ما تبقى من أولئك النازيين كما يرى بنيامين نتنياهو هم: الفلسطينيون.
*بالعودة الى إريك ألترمان؛ في مقابلة أجريت معك مؤخراً، قلت بأنه سيفزع من محتويات كتابك. كيف لك أن تعرف ذلك؟
– كنت أعرف بأن ردود أفعال الكتّاب الموالين لإسرائيل ستكون عبر التجاهل المتعمد لكتابي إن لم يكن بمقدورهم الإشارة الى ثغرات مهمة في الوقائع التي قمت بوصفها، وهذا بالذات ما فشلوا في الوصول إليه. فبعد ان أمضيت وقتاً طويلاً فيما يسمى بدولة إسرائيل، أصبحت على دراية بسمعة إيريك ألترمان بصفته من المتزمتين المؤيدين لإسرائيل وكشخص مليء بالترهات الحادة لدرجة كوميدية. بدا لي كمرشح مثالي لكسر الحظر الذي تم فرضه على كتابي “الجالوت”. لذلك وعندماعلمت بأن إيريك ألترمان يمارس التمارين للهجوم على كتاب “الجالوت”، عمدت لإيصال معلومة له عبر ناشر الكتاب تفيد برغبتي في أخذ رأيه في الكتاب. كما طلبت من ناشر كتابي إرسال نسخ منه الى عدد من الكتاب المؤيدين لإسرائيل مثل ليل ليبوويتز ليقوم بوضع ملاحظاته حول الكتاب، كذلك أيضاً سوهراب أهماري بصفته أحد أشهر ناقدي الكتب في صحيفة النيويورك تايمز. كنت هنا أعمل على فرضية أن إقدام هؤلاء على نقد مضمون كتابي سيوفر لكتابي الشهرة الضرورية.
دونما أي تأخير، خاض إيريك ألترمان هجوماً لاذعاً على كتابي في الصحافة. هجومه تم تمزيقه لأشلاء من قبل الكثيرين، وبالأخص من قبل علي غريب وتشيب مانيكن وكوري روبين وفان نغوين. أصبح إيريك ألترمان شرهاً وشرساً في محاولة معاقبتي عبر ثماني محاولات متتالية للهجوم عليّ شخصياً مما سبب له حرجاً كبيراً. كذلك أيضاً، شارك ألترمان في حملة تشهير ضدي بمساندة من المحافظين الجدد. أما بخصوص البقية من النقاد، فقد عمد أهماري إلى القول بأنه تخلص من نسخة كتابي عبر رميها في حاوية النفايات بدلاً من النظر في الكتاب وانتقاده موضوعياً، بينما وصف ليبووفيتز كتابي “بالعمل الخرافي” بعدما اضطر إلى وصف أكثر أجزاء كتابي دقة ومصداقية “بالوقائع الدقيقة عموماً”. إن حصل والتقيت بإيريك ألترمان، فسوف أشكره كبادرة عرفان على انتقاده اللاذع لكتابي مما أدى لمضاعفة شهرة الكتاب وبالتالي إعادة طباعته مجدداً.
* ما هي ردود الأفعال الإضافية التي حصل عليها كتاب “الجالوت”؟
– لقد تم إعلامي بأن لوبي “الإيباك” المؤيد لإسرائيل طالب مجلس دالاس للعلاقات الدولية بإلغاء استضافة كانت مقررة لي لمناقشة كتابي. كذلك، مجموعة مناهضة للإسلام تسمى “رابطة الأسرة في فلوريدا” حاولت إغلاق مأدبة خاصة بالعلاقات الأميركية الإسلامية كنت قد دعيت للمشاركة فيها. أيضاً، هاجمني ألان ديرشويتز شخصياً بوصفي “معاديا للأميركيين” كما قام بإدانة والدايّ لإنجابهما لي وتربيتي. مجلة “المنارة الحرة” الأميركية هاجمت والديّ بسبب استضافتها لحفل احتفاء بكتابي في منزلهما، ومن ثم حاولت الضغط على عائلة كلينتون لقطع جميع علاقات العائلة مع والدي الذي كان قد عمل لصالح بيل كلينتون في البيت الأبيض. كذلك، موّل بين بوزفيد حملة تشهير وتشويه مسعورة ضد كتابي وعلاقة والديّ بعائلة كلينتون. أما جون بودهوريتز فوصفني “بمن يلعق أعضاء قتلة اليهود”. أيضاً، كان لعضو المحافظين الجدد رون رادوش محاولة في الضغط على “مؤسسة أميركا الجديدة” من أجل إلغاء خطاب لي كان مقرراً في مكاتبها في العاصمة واشنطن. أما جماعة التأييد لإسرائيل المسماة “قف معنا” فحاولت إخضاع مركز مجتمع محلي من أجل إلغاء إحتفالية “رابطة المسلمين الاميركيين من أجل فلسطين” والتي كنت مدعوا للمشاركة فيها عبر رسالة للمركز المحلي تم وصفي والآخرين من المتحدثين فيها “بالمتطرفين”. أخيراً، قام “مركز سيمون وايزنثال” بتسميتي بالشخص الذي احتل المرتبة التاسعة في عدائه للسامية خلال سنة 2013. كما هو الحال لكثير من اليهود الآخرين، أنا أسعى حثيثاً لأكون متفوقا في عملي، ومما سبب لي كثيرا من الخيبة هنا، رؤية اسمي في المرتبة التاسعة أي بمرتبة متدنية من المناهضين لحملة الهوس المعادية للإسلام. أعدكم بأني في السنة القادمة سأحاول بجد اكبر لأحصل على المرتبة الأولى.
* هل كانت هذه هي ردود الأفعال التي توقعتها حين كتبت عن إسرائيل التي رأيتها بأم عينيك؟
– عندما بدأت حملة الهوس بالصهيونية، كان بالإمكان التنبؤ بمضامينها وأساليبها. وكما قلت، إذا كان بإمكانهم استخدام حملات الهوس هذه ضدي بما يخدم مصالح إسرائيل، فلن يدخروا جهداً لفعل ذلك وبكل شراسة. لكن لم يكن بمقدورهم تحقيق ذلك. ولهذا، وجدوا أنفسهم بدون أي دفاع عن الصهيونية سوى المضحك من الحملات الدعائية والتكتيكات الهزلية. انا أفترض أن من الشرف الكبير لي ولكتابي تمادي جون بودهوريتز في وصفه لكتابي “الجالوت” بأنه “أكثر كتاب مثير للإشمئزاز لهذا العام”.
وبانتظار اعتراف وسائل الإعلام الرئيسية بكتابي “الجالوت”، فإن الكتاب قد تلقى مراجعات إيجابية كثيرة جداً ومن جهات لم أكن اتوقعها، و أبرزها من جيمس فالوز رئيس تحرير “مجلة المحيط الأطلسي”، الذي قدم دفاعاً قوياً عن كتابي عبر حديث له في “مؤسسة أميركا الجديدة”. تجرأ فالوز على إلقاء نظرة موضوعية على أدائي الصحفي، وهذا قاده للاستنتاج بالقول: “لقد سلط بلومنثال الضوء على قضية رأي عام غاية في الأهمية عبر استدراج ردود فعل متطرفة غير دارجة في الخطاب الأميركي المتعارف عليه”.
أخيراً، لقد كان الإقبال على كتابي كبيرا وغير متوقع عبر الولايات المتحدة لكن بدون دعم وسائل الإعلام الرئيسية وبدون دعاية كبيرة. كما أن حشودا نشطة كبيرة تجمعت حولي في كل مدن الولايات المتحدة الأميركية وبشكل عفوي من أجل الحديث بموضوع الكتاب. كان الحضور متنوعاً من ناس من جميع الأعمار بمن في ذلك النشطاء المتشددون والوجوه الجديدة من المهتمين بمعرفة المزيد عما يحدث في إسرائيل.
كلما راوح الوضع الراهن على ما هو عليه في إسرائيل – فلسطين، تعمقت شراسة التوجهات التي قمت بتفصيلها في كتاب “الجالوت”. فمنذ سنة 1967، أصبحت الولايات المتحدة الأميركية الضامن الأساسي للوضع الراهن على الأرض هناك. وعندما أتحدث للناس عبر الولايات المتحدة، أقوم بتشجيعهم على التخلي عن أي أمل في ممثليهم المنتخبين والنخب المجتمعاتية من الذين لا يفعلون شيئاً لائقاً أو شجاعاً من أجل التصدي لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي. وفوق كل اعتبار، هؤلاء هم النخب والأشخاص ذاتهم الذين قاموا بتمكين نظام الفصل العنصري في تلك البلاد، إما بواسطة البعض ممن دعم ممارسات إسرائيل وعنصريتها مباشرة، أو أولئك الذين دفعوا بمفاوضات سلام مثيرة للسخرية مدعومين من قبل شركات ذات نفوذ و متواطئة مع إسرائيل. إن أراد الأميركيون رؤية تغيير حقيقي في الأراضي المقدسة، عليهم المشاركة بحملات شعبية مؤيدة للفلسطينيين مثل حركة BDS الداعية لمقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عنها وفرض العقوبات عليها. هذه الحركة تنمو بسرعة فائقة الآن، الأمر الذي يوجه ضربات صادمة للمؤسسة الداعمة لإسرائيل. وهذا شيء جيد باعتبار ذلك آخر الملاذات الفعالة للفلسطينيين من أجل مقاومة ومناهضة المشروع الهادف الى انتزاعهم من أراضيهم وسلبها وسلب حقوقهم منهم.
الغد الأردنية