لم تكد الدولة الإسلامية في العراق والشام تبسط سيطرتها على مدينة الموصل العراقية والقرى المجاورة لها، حتى شرعت في تبيان الطريقة التي ستحكم من خلالها دولتها. فيوم الخميس قبل الماضي، نشرت المجموعة السنية المتشددة وثيقة المدينة الموجهة للموصليين. وربما يكون العديد من سكان المدينة السنية في سوادها الأعظم قد رحبوا مبدئياً “بالتحرر” من نظام رئيس الوزراء نوري المالكي المسيطر عليه شيعياً، والذي لهم ذكريات مؤلمة رئيسية معه، لكنهم ربما استفاقوا بعد قراءتهم لتأويل الجهاديين للشريعة. فأولئك الذين يسرقون ستقطع أيديهم. ويجب أداء الصلوات الخمس الإسلامية اليومية في مواعيدها. وتحظر المخدرات والكحول والسجائر. ويعد حمل الأسلحة والرايات من غير راية “داعش” غير قانوني. وسيتم تدمير كل الأضرحة والقبور، نظراً لأنها تعتبر من مظاهر الإشراك بالله. ويجب على النساء ارتداء الملابس بشكل معتدل (تعبير مخفف عن النقاب).
تبرز هذه القوانين الوقائع الفظة للحياة في أراضي “داعش”. لكن ما يتم التجاوز عنه في الغالب هو حقيقة أن المجموعة تتوافر على استراتيجية حكم ناعمة أيضاً، والتي تتضمن تقديم خدمات مجتمعية ومحاضرات دينية وممارسة الهداية للسكان المحليين، بما في ذلك في أجزاء من محافظة الأنبار الواقعة في شمال غرب العراق، والتي كانت “داعش” قد فرضت سيطرتها عليها في الشتاء الماضي. وفي وثيقتها الخاصة بالموصل تشير “داعش” إلى أن السنة الذين عملوا في مؤسسات حكومة المالكي وأجهزته الأمنية يمكنهم التكفير عن أعمالهم ليتجنبوا بذلك عقوبة السجن أو الإعدام. وكانت “داعش” قد سمحت أصلاً لأعضاء الصحوة (المشاركين في مجالس الصحوة السنية التي شكلتها الولايات المتحدة خلال زيادة عديد قواتها ضد تنظيم القاعدة في العراق، المنافس لداعش، قبل عقد)، بالإعراب عن التوبة في محافظتي بابل وديالى.
لعل أفضل طريقة للتعرف على مسودة “داعش” في بناء الدولة تكمن في النظر إلى الطريقة التي حكمت بها محافظة الرقة وأراضي أخرى في سورية المجاورة. وتتمثل الخطوة الأولى للمجموعة في الغالب في تثبيت لوحات في أرجاء البلدة بهدف التأكيد على أهمية الجهاد والشريعة وطهارة النساء وموضوعات الورع الأخرى. وتصل المجموعة إلى الوجهاء المحليين وشيوخ القبائل أيضاً لتجنب التعرض لنوع الضربة الارتدادية التي تعرضت لها “القاعدة في العراق” وتأويلها القاسي للشريعة خلال حركة الصحوة في العقد الماضي.
تتوافر المجموعة على بيروقراطية متطورة بشكل مذهل، والتي تشتمل نمطياً على نظام محاكم إسلامية وقوة شرطة متحركة. وفي بلدة منبج السورية، على سبيل المثال، بتر مسؤولو (داعش) أيدي أربعة لصوص. وفي الرقة، أجبروا أربعة حوانيت على إقفال أبوابها لبيعها منتجات غير صالحة في السوق، بالإضافة إلى أسواق مركزية وبسطات لبيع اللحوم المشوية والكباب —وهي خطوة من المرجح أنها كانت من فعل مكتب سلطة حماية المستهلك. كما قامت “داعش” بجلد أفراد لأنهم أهانوا جيراناً لهم، وصادرت ودمرت دواء مزوراً، وفي العديد من المناسبات نفذت إعدامات فورية ضد أفراد وصلبت أفراداً آخرين. وأحرق أعضاء من المجموعة صناديق سجائر ودمروا أضرحة وقبوراً، بما فيها ضريح عويس القرني في الرقة.
الجهاديون يصلحون الحفر الامتصاصية، وينقلون الناس بالحافلات
بالإضافة إلى هذه الإجراءات القضائية والإدارية، تستثمر “داعش” في الأشغال العامة. ففي نيسان (ابريل) الماضي على سبيل المثال، أكملت بناء سوق جديدة في الرقة للمواطنين المحليين من أجل تبادل السلع. وبالإضافة إلى ذلك، تدير المجموعة مكتباً للكهرباء يراقب مستويات استخدام الكهرباء، وتقوم بتركيب خطوط طاقة جديدة، وتستضيف ورش عمل حول كيفية ترميم الخطوط القديمة. إلى ذلك، يقوم المتشددون بإصلاح الحفر الامتصاصية وينقلون الناس بالحافلات بين المناطق التي يسيطرون عليها ويعيدون تأهيل المناطق المتضررة لجعل الطرقات تبدو أكثر إسعاداً من الناحية الجمالية، كما يشغلون مكتباً للبريد ومكتباً للزكاة (الذي تدعي المجموعة بأنه يساعد المزارعين في جني محاصيلهم الزراعية). أما الأهم من كل شيء بالنسبة للسوريين والعراقيين في أسفل النهر، فهو أن “داعش” تستمر في تشغيل سد تشرين (أعادت تسميته بسم سد الفاروق) على نهر الفرات. ومن خلال كل هذه المكاتب والدوائر، تستطيع “داعش” توفير ما يشبه الاستقرار في مناطق غير مستقرة ومدمرة، حتى لو كان العديد من السكان المحليين لا يحبون برنامجها الأيديولوجي.
لكن ذلك لا يعني القول أن هذا المشروع الأيديولوجي ليس جزءاً لا يتجزأ من الخدمات المجتمعية لتنظيم “داعش”. فعلى سبيل المثال، يقيم منفذ الجماعة الإعلامي “الاعتصام” سرادقاً لتوزيع الأقراص المدمجة التي تضم أشرطة الفيديو التي تبثها الحركة على شبكة الإنترنت. وفي عدد من المناطق المحلية التي تسيطر عليها “داعش”، تجول شاحنة الدعوة لتذيع معلومات عن النظام العقائدي للمجموعة. وبالإضافة إلى ذلك، أسست “داعش” عدداً من المدارس الدينية للأولاد، بما في ذلك مدارس للفتيات، حيث يستطعن حفظ القرآن وتسلم شهادات في حال النجاح، بينما تقام أيضاً “أيام ترفيه” للأولاد، والتي توزع فيها المثلجات وتستخدم فيها ألعاب الإنزلاق القابلة للنفخ. وبالنسبة لنظرائهم من الفتيان الأكبر سناً، فقد أسست “داعش” جلسات تدريب للأئمة والوعاظ الجدد، وتقام برامج الصلوات ودروس القرآن في المساجد. وفي تطور يدعو أكثر إلى القلق، تدير “داعش” معسكرات تدريب للـ “الكشافة الأشبال”، وتقوم بإسكان هؤلاء المجندين في مرافق المجموعة.
بالإضافة إلى ذلك، طور المتشددون أيضاً برامج للصحة والرفاه. وتساعد “داعش” في إدارة مصانع الخبز وتوفر الفواكه والخضراوات للعديد من العائلات، وتقوم بتوزيع السلع شخصياً. وفي الرقة، أسست “داعش” مطبخ غذاء لإطعام المعوزين ومكتباً للأيتام لمساعدتهم في جمعهم مع عائلات. وقد تكون طالبان متوجسة من حملات التلقيح، لكن “داعش” تدير حملات تطعيم ضد شلل الأطفال في محاولة للجم المرض والحد من انتشاره.
في الوقت الذي لا يجب فيه أن تقوم طريقة إدارة الحكم والخدمات المجتمعية التي تقدمها “داعش” بحجب واقع القمع والعنف المميت الذي تمارسه، فإنها تسلط الضوء على حقيقة أن المجموعة تدير عملية متطورة ومنظمة بشكل جيد. وبذلك، فإن مبلغ 425 مليون دولار (نصف مليار تقريباً!) الذي استولت عليه المجموعة من البنك المركزي في الموصل لن يساعد المتشددين في ميادين المعركة وحسب، بل انه سيساعد أيضاً في تعزيز حملة المجموعة لكسب القلوب والعقول. وسيجعل ذلك من الأكثر صعوبة تفكيك ما تشبه الدولة الوليدة في سورية والعراق.
الغد الأردنية