تشكلت فكرة القبول بالذهاب إلى تسوية سياسية مع الاحتلال الإسرائيلي قبل سنوات طويلة من توقيع اتفاق أوسلو، حيث جسد برنامج النقاط العشر الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1974 روح مشروعها السياسي منذ ذلك الوقت؛ إذ هدف إلى إقامة سلطة فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطين، كما تم تثبيته سنة 1988 مع رفع شعار دولتين لشعبين والقبول بقراري 242 و338.
نشأت السلطة الفلسطينية سنة 1994 على خلفية توقيع اتفاق أوسلو، وقد حرصت “إسرائيل” بذهابها إلى المفاوضات على التخلص من إدارة الضفة الغربية وقطاع غزة، خصوصاً بعد الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تكبدتها في أثناء الانتفاضة المباركة في الفترة 1987-1993؛ كذلك شكلت عقدة الخطر الديموغرافي والخوف على هويتها اليهودية أحد أهم سياقات التسوية، وخصوصاً أن كل المؤشرات كانت واضحة بأنها تسير نحو التفوق الفلسطيني العددي في فلسطين التاريخية.
كذلك احتفظت “إسرائيل” بالكثير من عناصر القوة في اتفاقيات المرحلة الأولى، مما أتاح لها التأثير في مستقبل السلطة الفلسطينية ومشروع الدولة الفلسطينية، فربطت المكونات الأساسية للسلطة بها؛ إلى درجة أن تحرك قيادة السلطة الفلسطينية بات يحتاج إلى إذن إسرائيلي. كذلك احتفظت “إسرائيل” بسيطرتها على المعابر الحدودية، وربطت شبكة الكهرباء والمياه والاتصالات بها أيضاً. كما قيدت الاقتصاد الفلسطيني باتفاق باريس الملحق باتفاق أوسلو (برتوكول باريس الاقتصادي Paris Protocol)، الذي ما زال يسهم في إعاقة بناء اقتصاد فلسطيني تنموي يهيئ لاقتصاد دولة قادرة على القيام بواجباتها دون أموال الدول المانحة.
كما شكل قبول منظمة التحرير الفلسطينية بترحيل القضايا الأساسية والمتعلقة بمستقبل اللاجئين، والقدس، والمستوطنات، والحدود والمياه، والسيادة إلى المرحلة النهائية، نقطة ضعف انعكست لاحقاً على سير العملية التفاوضية وتحولها إلى حالة تجميلية لصورة المحتل الراغب بالسلام.
وبعد مرور أكثر من 19 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو ما زالت السلطة الفلسطينية رغم تنفيذها المتطلبات الإسرائيلية الأمنية، عاجزة عن تحقيق حلم الدولة الفلسطينية الموعودة، كما أنها عاجزة عن التحرُّر من القيود الإسرائيلية التي فرضها اتفاق أوسلو على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، وهو ما وَلَّد حالت إحباط فلسطينية شعبية، وحتى رسمية على مستوى قيادات السلطة الفلسطينية، من مسار التسوية السلمية.
أولاً: السلطة الفلسطينية والوضع الفلسطيني الداخلي:
لإجراء قراءة نقدية موضوعية لتجربة السلطة الفلسطينية في الوضع الداخلي لا بدَّ من وضع مجموعة من المحددات التي حكمت علاقة السلطة الفلسطينية بالفصائل.
1. تفرد حركة فتح في تحديد المسار السياسي الفلسطيني.
2. استخدامُ حركةِ فتح السلطةَ التي تقودها في أكثر من موقع لفرض رأيها.
3. اعتماد السلطة الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني بشكل عام على الكاريزما الشخصية للقيادة الفلسطينية؛ والتي يصعب معها بناء نظام سياسي مؤسساتي قد يشكل نواة لمشروع دولة.
4. اعتماد قيادة السلطة الفلسطينية نظام “الزبائنية” (أي النظام القائم على المنفعة الشخصية المتبادلة بين الرئيس والمرؤوس) إلى حدٍ كبير في عملية إدارة السلطة، وتحكم المصالح الخاصة بالأداء العام.
5. تدني الكفاءة السياسية الفلسطينية في عملية المفاوضات منذ أوسلو، والقبول بالتزامات أمنية انعكست سلباً على العلاقات الفلسطينية الداخلية.
6. اعتماد مبدأ وحدانية الخيار السياسي؛ أي أنه لا خيار أمام السلطة الفلسطينية سوى خيار المفاوضات ثم المفاوضات، وعلى الرغم من أن الرئيس الراحل ياسر عرفات استخدم المقاومة أحياناً بشكل تكتيكي وخصوصاً قبيل وفاته، إلا أن هذا الأسلوب انتهى مع قدوم الرئيس محمود عباس.
7. انتقال مظاهر الضعف والترهل والفساد الإداري والمؤسسي في منظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية؛ وإسهام أموال المانحين بتعميق الفساد.
وبناء على ما تقدم فإن سياقات عمل السلطة الفلسطينية ولدت مقيدة بشكل أو بآخر بقرار الرجل الواحد والحزب الواحد، ومقيدة باتفاق سياسي ليس له سقف زمني، ويحكم مسارها وفق المصلحة الكلية للمحتل، الذي حرص على استمرار هذه السلطة طول العقدين الماضيين ضمن دائرة الكيان الوظيفي.
ومع امتناع عدد من التيارات السياسية الفلسطينية المعارضة لاتفاق أوسلو عن المشاركة في الانتخابات سنة 1996، استمرت حالة التفرد الفتحاوي بمعظم دوائر ومؤسسات السلطة الفلسطينية، حيث فاز من مرشحي القوائم الرسمية لحركة فتح 50 مرشحاً من ضمنهم ثلاثة غير منتمين إلى حركة فتح، ونجح من أعضاء حركة فتح من الذين ترشحوا خارج القوائم 21 مرشحاً، وبذلك حصلت فتح على 68 مقعد من أصل 88 من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني لسنة 1996 . كما احتلت حركة فتح على الأقل موقعين من المواقع الثلاثة في الوزارات (وزير، ووكيل وزارة، ووكيل مساعد)، وأن “33 شخصاً من مجموع الوكلاء والوكلاء المساعدين الأربعين في الوزارات العشرين كانوا سنة 1996 من حركة فتح” ، أما البقية فهم من المستقلين الذين تميل غالبيتهم إلى حركة فتح.
وبما أننا في إطار البحث عن أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، فإن قيام السلطة الفلسطينية أسهم في تحجيم منظمة التحرير، التي تضاءلت مع الزمن حتى بدت وكأنها دائرة من دوائر السلطة، كما أسهم قيام السلطة وتحجيم دور المنظمة في تغييب فلسطينيي الخارج عن قضيتهم وعن ممارسة واجباتهم وحقوقهم الوطنية.
حملت نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية سنة 2006، أملاً بكسر الاحتكار السياسي داخل السلطة الفلسطينية، إلا أن فوز حركة حماس بأغلبية المقاعد التشريعية، أظهر أن قيادة فتح ما زالت غير مستعدة تماماً لتقبُّل استيعاب حماس في النظام السياسي الفلسطيني، ولا للتداول السلمي للسلطة، فقامت بالعديد من الإجراءات لإفشال تجربة حركة حماس، مدعومة بسياسات وإجراءات إسرائيلية وأمريكية تدفع بهذا الاتجاه، إلى جانب دول “الاعتدال” العربي، وقد تضمن ذلك:
1. إلحاق كافة الأجهزة الأمنية والمؤسسات الإعلامية وإدارة المعابر إلى مكتب رئاسة السلطة.
2. مصادقة المجلس التشريعي المنتهية ولايته في جلسة عقدها بتاريخ 13/2/2006، بعيد الانتخابات التشريعية، على مجموعة من المراسيم الرئاسية تمنح الرئاسة حق تشكيل المحكمة الدستورية دون مصادقة المجلس التشريعي، وتعيين رئيس ديوان الموظفين ورئيس هيئة التقاعد ورئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية، وتعديل يسمح بتعيين أمين عام المجلس التشريعي من خارج المجلس، وقد تولى شخصيات فتحاوية جميع هذه المناصب.
3. استباق تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة برئاسة حماس، والقيام بحملة تعيينات وترقيات في مؤسسات ووزارات السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية.
4. انتزاع التمثيل الدبلوماسي ومتابعة السفارات من صلاحيات وزير خارجية السلطة الفلسطينية، وإعادتها مرة أخرى بالدائرة السياسية التابعة لمنظمة التحرير.
من الواضح أنه تم عملية تفريغ لمضمون العملية الديموقراطية، بقيادة رئاسة السلطة الفلسطينية، مما أسهم في زيادة حالة الاحتقان الداخلي، كما دفعت العناصر المحسوبة على فتح باتجاه رفع وتيرة الفلتان الأمني، وهو ما أدى إلى عملية الحسم العسكري الذي فرضت فيه حركة حماس سيطرتها على قطاع غزة في حزيران/ يونيو 2007.
وعلى الرغم من تعدد الاتفاقيات بين الأطراف الفلسطينية ومحاولات ترتيب البيت الفلسطيني، وتوقيع اتفاق القاهرة آذار/ مارس 2005، ووثيقة الوفاق الوطني أيار/ مايو 2006 واتفاق مكة شباط/ فبراير 2007، وحتى إعلان الدوحة 2012، إلا أن الانقسام الفلسطيني لم ينته، وانكشفت التأثيرات الخارجية وضغوط القوى الدولية في التأثير على الوضع الفلسطيني الداخلي.
ثانياً: الجانب الاقتصادي:
تُعدُّ البنية الاقتصادية القوية لأي كيان سياسي ناشئ، أحد أهم مقومات بناء الدول الحديثة القادرة على النهوض بمجتمعها وتقدمه، وفي هذا الإطار ما زالت السلطة الفلسطينية بعد مرور نحو عقدين من الزمن تعتمد على الدول المانحة في سد عجز ميزانيتها المقدر سنوياً بنحو 1.3 مليار دولار أمريكي، يذهب جلها لتغطية فاتورة الرواتب الحكومية للموظفين. وفي مقاربة بسيطة مع دولة مثل لبنان (حيث هناك تقارب في عدد السكان) بناتج محلي يبلغ 45 مليار دولار سنوياً، يقدر عدد موظفي القطاع العام فيه بنحو 175 ألف موظف، بما فيهم الأمن الداخلي والجيش والذين يبلغ عددهم نحو 95,500، في المقابل يقدر عدد موظفي السلطة الفلسطينية بنحو 160 ألف موظف بينما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للسلطة نحو ستة مليارات دولار، وهو ما يظهر مدى المعاناة الاقتصادية للسلطة، كما يُظهر حجم الترهل الذي يعانيه القطاع العام في السلطة الفلسطينية التي لا يوجد فيها جيش أصلاً، وتقيد عمل أجهزة الأمن الفلسطينية في مناطق محدودة المساحة والمهام.
وبالرجوع إلى آراء خبراء الاقتصاد في تحديد أسباب تردي الوضع الاقتصادي في أراضي السلطة الفلسطينية نرى أن برتوكول باريس الاقتصادي الموقع سنة 1994، يعدّ أحد أهم الأسباب التي أسهمت في حرمان السلطة الفلسطينية من وضع اقتصادي تنموي؛ فحسب برتوكول باريس فإن الاقتصاد الفلسطيني يقع ضمن نطاق الاتحاد الجمركي مع “إسرائيل”، مما يعني بأن من الصعب الحديث عن نظام تجاري وضريبي فلسطيني مستقل عن النظام الإسرائيلي، وبالتالي يتوجب على السلطة الفلسطينية أن تفرض نفس معدلات الضرائب الإسرائيلية سواء المباشرة أم غير المباشرة؛ وقد حدد البرتوكول الضريبة على القيمة المضافة بين 15-16%، وهو ما يعادل قيمة الضريبة تقريباً المفروضة في “إسرائيل” والتي تبلغ 17%، مع الفارق الشاسع بين الطرفين في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
إعداد: أ. وائل سعد.
النص المعروض هو للصفحات الخمس الأولى من الدراسة … للاطلاع على الدراسة كاملة موقع الزيتونة للدراسات : http://www.alzaytouna.net/permalink/36335.html