واضح أن العدوان الإسرائيلي على غزة اختلف كثيراً هذه المرة في مضامينه ونتائجه عن سابقه عندما هاجمت إسرائيل عزة بحراً وبراً لنحو شهر أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2008، ما تسبب في الكثير من الخسائر البشرية والمادية. هذه المرة، وقع العدوان في ظل معطيات مختلفة من الناحية العسكرية وأيضاً في ما يتعلق بالمعطيات الإقليمية. فما الذي تغير؟ وما هي الدروس المستقاة؟ وما هي التأثيرات المستقبلية المحتملة لما حصل؟
خلال الثلاث سنوات ونيف التي أعقبت العدوان السابق، حاولت «حماس» بناء ترسانتها العسكرية بمساعدة إقليمية، لاسيما من إيران، فزادت قدراتها الصاروخية واكتسبت خبرة أكثر في التكتيك العسكري. فما يوجع إسرائيل هو أن تهدد أمنها واستقرارها بدلاً من أن تظل مدافعاً أو تجهز انتحارياً قد تفشل مهمته أو لا تصيب إسرائيل في مقتل. الهجمات الصاروخية على إسرائيل تسببت في رعب وهلع سيكولوجي، وتعطيل لقطاع المال والأعمال، ما ولّد خسائر اقتصادية قدرها بعض الجهات ببليون دولار في أسبوع. ومهما يكن هناك من فارق في توازنات القوة لمصلحة إسرائيل، فإن المعركة هذه المرة كانت وفق منطق الردع والردع المقابل بدلاً من الهجوم والدفاع.
إسرائيل، وإن فوجئت بتطور قدرات «حماس» الصاروخية، لم تكن تبحث عن نصر عسكري ساحق، بل كانت لها أهداف سياسية تسعى إلى تحقيقها من جراء حرب خاطفة. وأهمها هو ما يتعلق بإبقاء العامل الأمني أحد محددات الربح والخسارة في الانتخابات الإسرائيلية المقررة إقامتها بعد أقل من شهر. هذا يعزز بطبيعة الحال حظوظ اليمين المتطرف الإسرائيلي الذي يتخذ من القوة في التعامل مع الفلسطينيين، وتعطيل عملية السلام، والاستيلاء على مزيد من الأرض الفلسطينية تجاه عملية السلام برمتها، مرتكزات أساسية في سياسته عموماً. يضاف إلى ذلك أن إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية التي وقفت متفرجة على العدوان، هو إضعاف لشرعيتها في الداخل الفلسطيني وأمام العالم، لعرقلة مساعيها للحصول على مكانة دولة غير عضو في الأمم المتحدة.
الضفة الغربية أصبحت اليوم أكثر عزلةً من ذي قبل، فالاستيطان ينهش القدس الشرقية وبقية مناطق الضفة، فيما تبدو الإدارة الأميركية غير عابئة بمسألة السلام في الشرق الأوسط، بمقدار اهتمامها بالتطورات السياسية والاقتصادية في آسيا والباسيفيك، وهي لا تزال داخلياً رهينة الوصول إلى اتفاق مع مجلسي النواب والكونغرس لتمرير خططها الاقتصادية تفادياً لسقوط اقتصادي سيكون هائلاً. هذا جعل السلطة الفلسطينية تعيش مأزقاً مالياً وآخر سياسياً، أصبحت في ظلهما غير قادرة على دفع رواتب موظفيها من ناحية، ومتآكلة الشرعية السياسية من ناحية أخرى. كما هدف العدوان إلى تعزيز عزلة الضفة الغربية عن غزة جغرافياً وسياسياً، الأمر الذي بدا واضحاً في كيفية معالجة العدوان والوصول إلى وقف النار.
فالضمانات الإقليمية والدولية، بين مصر وأميركا وتركيا و «حماس» لعبت الدور الأكبر في تفاهمات الهدنة، ومع أن التفاصيل الكلية لذلك لا تزال في طور التبلور، فإنه من الواضح أن سياسة المحاور الإقليمية والانقسام العربي الذي طغى على الساحة العربية خلال العدوان الإسرائيلي السابق على غزة لم يعودا موجودين، بل على العكس من ذلك كان هناك تضامن صريح مع غزة المقاومة. وهذا ما يؤكد مرة أخرى أن نمط التحالفات الإقليمية في المستقبل سوف يرتكز على الإسلام السياسي المدعوم بالدفع الثوري.
وأدركت إسرائيل أنها قد تخسر أكثر إذا قامت بعدوان بري، تخسر مادياً وبشرياً نظراً إلى تطور قدرات المقاومة، وتخسر على المستوى الإقليمي لأن الربيع العربي غيّر وجه الوطن العربي على المستويين الشعبي والرسمي.
كل هذه المعطيات تقودنا إلى القول إن الديبلوماسية تصبح غير فاعلة ما لم تكن مدعومة بالقوة، والمفاوضات من موقف ضعف تقود إلى مزيد من الضعف، وبناءً على ذلك فإن عملية السلام تضاءلت فرص نجاحها. يضاف إلى ذلك أن المعطيات الجغرافية على أرض الواقع تغيرت منذ صدور القرارين الأمميين 242 و 338، فعشرات الآلاف من المنازل الفلسطينية تم هدمها والاستيلاء عليها، بما في ذلك أجزاء كبيرة من القدس الشرقية هُوّدت تهوديها وضُمت إلى إسرائيل لجعل القدس العاصمة الأبدية للدولة اليهودية. على سبيل المثال، أشارت اللجنة الإسرائيلية المناهضة لهدم المنازل، ICAHD، إلى أن إسرائيل تمارس سياسة متعمدة لتهجير الفلسطينيين من القدس الشرقية، وأن ذلك يرقى إلى اعتباره جريمة حرب. وقد شهد عام 2011 أكبر نشاط إسرائيلي لتهجير الفلسطينيين وهدم منازلهم، إذ هُدم 622 مبنى، منها 222 منزلاً، ما أسفر عن تشريد وتهجير 1094 فلسطينياً، وهو ضعفا الرقم للعام 2010.
بقي أن نقول إنه منذ العام 1967 هدمت إسرائيل أكثر من 25 ألف منزل وتسببت في تشريد أكثر من 170 ألف فلسطيني وهذا يجعل عملية السلام أقرب إلى السراب منها إلى الواقع، ما يقتضي إعادة نظر حقيقية في مجمل المقاربات المطروحة في هذا الشأن، وفي طريقة التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي بشكل كلي في ضوء المعطيات الجديدة.
الحياة اللندنية.
* مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية