يوم الثلاثاء القادم يوم قرار وحسم. يوم سيكون له أثر جسيم على مستقبلنا ، نحن العرب ، في إسرائيل..المصلحة العليا للجماهير العربية تستدعي مشاركتنا في الانتخابات ، أمّا المحاسبة فلتكن بعد “يوم الدين”.تصويتنا واجب وأصواتنا يجب أن تمنح لمن سيخدم مصالحنا القومية وحقوقنا المدنية.
فشعار ” هيّا إلى التصويت ” لا يكفي ومن شأنه أن يبرّر للمنزلقين في أحضان أحزاب كانت وما زالت مسؤولة عن قمعنا ومآسينا ، استدفاءهم في تلك الأحضان المرفوضة.
كما أنني لا أوافق شعار ” صوّتوا للأحزاب العربية ” كما رفعه بعض القادة والدعاة العرب ، هكذا بالتعميم والإبهام ، فأولًا ، هنالك أحزاب عربية لا أدعو للتصويت لها لأنّها ستكون محارق لأصوات عربية ثمينة ، وثانيًا ، يُشتمّ من هذه الدعوة استثناء للجبهة الديمقراطية لأنّها حزب مبني على شراكة عربية يهودية. لعرب كثيرين ، سيكون التصويت للنائب دوف حنين أصح وأسلم سياسيًا من التصويت لنوّاب عرب عروبتهم كعروبة ” كامل أمين ثابت ” أو”موسى شرتوك “، ولكثيرين يكون التصويت للجبهة ، العربية اليهودية ، هو الخيار الأفضل في دولة أكثريّتها يهودية ، عنها لن ننزح وفيها لن نبقى على الهامش ، رعايا في بلاط سلطان جائر.
تاريخنا ، وكنّا أكثرية صاحبة العهدة وجغرافيا الوطن ، أكبر دليل وأهم معلّم.
ولأننا لم نصغ لهمس الحجارة ولتراتيل التاريخ أمسينا لقطاء جغرافي ، أكتب مقالتي هذه وقد عدتُ لتوّي من رام الله ، حيث شاركت في لقاء عقد في ظل ” درويش ” الذي حاصرته الجغرافيا فجنّ منها ، وآثر المنفى وحضن القصيدة.
هو الذي ذهب وعاد ، عاد وذهب وأعلن أنّه لم يخرج الا مجازًا ولم يعد إلا مجازًا. هناك حيث يرقد مع فراشاته والخشف ، على تلة تطلُّ على بقايا قدس وحلم التقيت وبعض الأحياء من أحبّاء وأغراب.
لا أعرف إن كان اختيار موقع حديقة البروة وصرح ” درويش ” في رام الله ، محض صدفة أو عن انتقاء متعمّد ومقصود لإقامة حفل توقيع كتاب ” ياسر عرفات وجنون الجغرافيا ” لمؤلّفه السياسي الإعلامي الصديق نبيل عمرو.
رام الله في هذه الأمسيات ملفوفة ببرودة أنثى سئمت كذب الرجال ، إليها وصلت في الموعد المحدد ، عتمة غير محكمة ، سيّارات تصطف على جنبات شوارع خجلى وتقذف مدعوّي صاحب الحفل ، يعتلون الدرج بتأن وحذر أن تلامس نعالهم الأرض خشية إزعاج الفراش الذي لا تراه يحوم في الفضاء ، لكنك تحسّ أثره رعشات لذة فريدة واخزة.حديقة البروة” ، صرح وشاهد ووفاء.
إشراقة أطاحت بالخسارة وهيّأت للذكرى مساكب وجع وأزهار ، إنّه المكان الأنسب كي يقف من جاءنا أكثر من شاهد على تاريخ الجرح ليروي بحرفة أديب لواعج السياسي وليترك ، بمهارة مَن ألِف مِن الرصاص أكثر من أزيزه ، حيّزًا لكل لبيب أن يختار برّه ومرساة تثبّته.
“حديقة البروة ” كانت أرض ميعادنا ، وكانت أكثر الأماكن مناسبة لأتيقّن أنّ الحكمة كانت كما عاشها النبيل وقبله محمود في الجغرافيا ، لا سيّما عندما تكتب هي ، إن جنّت ، تاريخًا أو تمحوه.
قرأت الكتاب دفعة واحدة ، شربته كما لو كنت أتجرّع دواءً يعيد لي من المواضي خانات قتلت خلاياها. أحسست وكأنّني تلقيت بعض “النقرات” على صدغي فاستعادت التفاصيل أمكنتها وتشكّلت بترتيب دقيق ومتناسق. شعرت بحزن شديد وذهبت كي يكون المؤلف أمامي فأعوّضه بحفنتين من ابتسامة وهمستين: شكرًا لأنك كتبت وشكرًا لأنّك لم تجن. كم كنت أتمنى لو أستطيع أن أحبّب أو أفرض على كل فلسطيني/ة قراءة الكتاب ، لا سيّما قبل يوم الانتخابات لكنيست إسرائيل.
سأعود للكتاب لأهمية ما جاء فيه من وقائع وشهادات ، لكنني واثق أن قراءة أوّلية لتفاصيل الحوادث المفصلية ، كما شاهدها بأم عينه وسمعها في لحظات حدوثها ، من شأنها أن تجلو كثيرًا من غبار التاريخ الذي غطّى أغلفة الحقيقة والواقع ، تاريخ فلسطين جرح ، كلّما ضمّدته حكمة وظروف ، نكأته غفوة ، مؤامرة وظروف.
ياسر عرفات ، الذي رافقه نبيل عمرو ، أصاب وأخطأ وفي الحالتين كان قائدًا لشعب ورمزًا لقضية ، كان كبيرًا ولأنّه كبير كانت انتصاراته كبيرة وكذلك خساراته ، كان ياسر عرفات ساحرًا في اجتراح الشعار ، لكنّه حاول أن لا يكون الشعار أبعد من حلم جميل كي لا يصير في الصباح كابوسًا ودمًا.قناديل نبيل عمرو ، زيتها تجربة مريرة ، تنير عتمة درب وترشد من ما زال يلهث وراء سراب ويرقص مذبوحًا وليس من طرب. إنها تروي عن حالة من راهن واستكان لدفء “بعث” واكتوى مرةً”بنار” دجلة ومرّات من “بردى”.وعن من تعلّق بالنجمة الحمراء فكسب إلى حين هوت النجوم ، ذات ظهر ، وتبدّلت أحوال.
ما كان في الجيب صيدًا مؤكّدًا صار “كرتًا” على طاولات الدبلوماسية والمصالح الدولية رهينة أو عجينة أو ضحيّة. إنّه مقلمة ملأى بمساطر جديدة ، أقلام ملوّنة، بيكار، ممحاة ، مقص ، مبراة ورزمة من ورق أبيض ومناديل للدموع.لم نُهزم بعد ، قال نبيل ، وشاهدُنا ، نحن ، بقاؤنا في الجغرافيا.
لم تنته قضيتنا بعدُ ، ورهاننا على حكمة بنّائينا، أولئك الذين سبقوا ياسر وخبروا أن التاريخ سدى إن لم يخطَّ على أرض وجغرافيا. مسيرتنا متعثرة ، قال ، ونحن ، هنا ، كنّا وما زلنا عثرة في وجه من يحاول اغتصاب الجغرافيا.
هناك على تلك التلة الرابضة جاء الصوت وقال : هنا أولًا وهنا آخرًا ، هكذا علّمنا الجنون وعلّمتنا الجغرافيا ، ففي البدء “خلق الله السماوات والأرض” ، من أجلها سأدبّ صوتي ومن أجل بقائنا عليها أولًا وفيها عندما يحين ميعاد وقدر.