ذبح الأبرياء: لماذا تجهض الأضرار الجانبية أفضل خطط صانعي الحرب “المحدودة”؟

2014/08/03
Updated 2014/08/03 at 10:24 صباحًا

 فهرس

يتم كسب النزاعات الحديثة قليلة الكثافة أو خسرانها من على حوافها غير المشذبة. وتتصرف الدول كما لو أن خطط جيوشها وعمليات استخباراتها المعدة بعناية يمكنها أن تسخر فوضى الاشتباك وتوجهها بحيث تخدم في تحقيق مصالحها. وعندئذ، تأتي الأحداث العشوائية غير المخطط لها، وتقع الأضرار الجانبية، ويكون لها على السياسات وموقف المتحاربين أثر يتجاوز ما أضافته كافة العناصر المحسوبة للصراع. ولسنا في حاجة إلى النظر أبعد من عناوين الأخبار لهذه الأسابيع الأخيرة –إلى الأطفال الفلسطينيين الأربعة الذين قتلوا على شاطئ غزة، أو إلى الحطام المتناثر لطائرة الخطوط الماليزية التي يُزعم أنها أُسقطت فوق أوكرانيا.
في حين دأبت الحكومة الإسرائيلية بشكل متكرر على تبرير تصرفاتها ضد حماس باعتبارها دفاعاً عن النفس، فإنها لا تستطيع الدفاع عن مقتل الأطفال الأربعة على الشاطئ، أو إذا كان ذلك يهم أيضاً، ذلك العدد الكبير من الضحايا المدنيين الآخرين الذين أوقعتهم هجماتها. ربما تتخذ الحكومة كل احتياط ممكن، وتستخدم كل أنواع الذخائر الذكية المتاحة، وتوقف حربها بشكل دوري من أجل إتاحة المجال أمام تقديم الإغاثة الإنسانية. لكنه عندما يموت الأطفال الأبرياء بينما يلعبون على الشاطئ، فإن كل تبرير يصبح أجوف، ويتبين أن كل الاحتياطات لن تكون كافية بطريقة مفضوحة. وعندما يتمدد فتى جثة هامدة في حقل أوكراني بعد أن هبط عليه الموت من السماء، فإن الحيل السياسية والإنكار التي قد تكون مفيدة في إدارة حوادث أقل ترويعاً، تفقد فعاليتها.
من منظور سياسي صرف، فإن هذه المآسي، مهما كانت معزولة، تهيمن فوراً على سرد أي صراع لأنها تتحدث إلى قلوب المراقبين -في حين أن خطابات الحكومات، وتغذيات تويتر، والبيانات الصحفية، تبدو عقلانية ومحسوبة وبلا روح ومغرقة في البرود. ليست هناك أي حجج يمكن أن يبتكرها زعيم سياسي أو مسؤول إعلامي، والتي يمكن أن تخفف الرعب أو الكرب الناجمين عنها.
ليست هناك معادلة أخلاقية يمكن أن تعرض حسابات مرضية تمكننا من القبول بموت الأبرياء كأمر مبرر ومسلم به. في لحظة واحدة، تصبح المبررات لشن مثل هذه “الإجراءات المحدودة” مثاراً للجدل وموضعاً للخلاف. وتصبح كل التبريرات بحجة الدفاع عن النفس جوفاء عندما يُقتل العزل. وفي حقيقة الأمر، فإن فكرة أن مثل هذه الأعمال يمكن أن تكون “محدودة”، بمعنى قابليتها للإدارة أو الاحتواء، تكذبها العواقب غير المقصودة مثل تلك التي هيمنت على الأخبار في الأسابيع الأخيرة. ويصبح ذلك مأسوياً بشكل مضاعف في حالة الجولة الأخيرة من القتال بين الإسرائيليين وجيرانهم الفلسطينيين –والتي تشهد الآن تواجد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي على أرض غزة- بسبب العبثية واللاجدوى المتأصلة في جهود كلا الجانبين. لقد رأينا هذه المناوشات من قبل.
لم يحدث أبداً، ولا لمرة واحدة، أن حسنت هذه الاشتباكات موقف أي من الطرفين. لا أحد منهما يستطيع أن يلحق بالآخر من الضرر ما يكفي لتغيير ميزان القوى بينهما. ولا يستطيع أي عمل يقوم به أي منهما أن يشكل رادعاً بما يكفي لتغيير سلوك الآخر.
مع ذلك، يبدو أن كلا طرفي الصراع في إسرائيل وغزة ما يزالان تحت تأثير الوهم بأن هذه الانفجارات المتكررة للعنف يمكن أن تخدم هدفاً في حقيقة الأمر. لقد فقد القادة على كلا الجانبين كل إحساس بأنه عندما يتقاسم طرفان نفس الأرض، فإنهما يتقاسمان أولادهما، وأن الأبناء لا ينتمون إلى أمم اليوم المعيبة، وإنما إلى الوعد بما قد يأتي به الغد. ولا يقوم مشهد الأطفال القتلى بإضعاف إسرائيل سياسياً وتلطيخ موقفها الدولي فقط، وإنما يشوه كل عمل يمكن الدفاع عنه، والذي قد تتخذه إسرائيل، ويحط من قدر أي سلام مستقبلي، لأن السلام يكون انتزع مسبقاً، وحرفياً، من أولئك الذين ربما كانوا ليستفيدوا من مستقبل أفضل.
الجزء المحزن في كل هذا هو أننا كنا نعرف جميعاً أن مثل هذه النتيجة سوف تأتي. نعم، تم قتل بعض المتشددين العنيفين الذين يشكلون خطراً على إسرائيل في الجولة الأخيرة من القتال، لكن التاريخ بيّن أنهم مثل أسنان التنين: تنتزع واحداً، فينمو آخر في مكانه. لكنه عندما يتم قتل المحايدين في الطريق، فإن ذلك لا يقوم فقط بتسريع عملية خلق متطرفين جدد وحسب، وإنما يقوي موقف حماس القائل بأن إسرائيل هي المستخدم القاسي للقوة غير المتناسبة، وهي المشكلة التي ينبغي أن يساعد العالم في حلها. وليس ثمة شك في أن إسرائيل قد أصبحت اليوم أضعف نتيجة لمقتل الأطفال الأربعة مما كانت عليها قبل بضعة أيام، عندما كانوا ما يزالون يستطيعون أن يلعبوا كرة القدم على الشاطئ.
بالمثل، وقبل أيام قليلة، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسط زملائه من قادة مجموعة دول “بريكس” وهو ينعم بدعمهم له. لكنه إذا تم إثبات أن الانفصاليين الذين تدعمهم روسيا والذين يستخدمون أسلحة روسية كانوا هم، كما يبدو الأمر، مسؤولين عن إسقاط رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 17، ومصرع الركاب وطاقم الطائرة البالغ عددهم 298، فإنه سيكون من الأصعب كثيراً على أصدقاء الزعيم الروسي أن يستمروا في دعمه أو دعم جهوده الوقحة لزعزعة استقرار أوكرانيا.
مع كل البراعة في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم من دون إطلاق رصاصة واحدة، ومع زج قوات ووحدات استخبارات “سبيتسناز” بسلاسة داخل أوكرانيا بطريقة لم يجرؤ حتى أعداؤه على وصفها بأنها غزو، ومع الاستفادة من الاضطرابات للتأثير على الدولة الجارة، يحتمل كثيراً أن تكون هذه المأساة هي التي ستعرّف طبيعة هذا الصراع أخيراً في أعين العالم. وسوف تعمل بكل تأكيد على إعادة كتابة روايته.
أعلن بوتِن مسبقاً أن الحادثة هي خطأ أوكرانيا. ومع الوقت، ربما يذهب إلى إلقاء اللوم على انفصالييها المارقين. لكنه حتى لو اتجه اللوم في ضغط الزناد إلى أحد القوازق غير النظاميين، فإن من المرجح أن تعمل مذبحة الأبرياء في عكس مصلحة الراعي الواضح.
في الحروب الشاملة الكبيرة، يكون من الأسهل التقليل من شأن الأضرار الجانبية باعتبار أنها كلفة لتحقيق هدف حاسم: هدف البقاء. أما في الصراعات المحدودة، فإنها يمكن أن تعيد ترتيب السياق باعتبار أنها جزء لا يتجزأ من المعركة الشاملة، بقدر ما هو استخدام القوة كذلك. وتبعاً لذلك، يمكن أن تصبح الأخطاء العشوائية هزائم كبيرة. فعندما يموت الأبرياء، تتضاءل معايير النجاح أو الفشل العسكرية مقارنة بالتكاليف البشرية التي يتم تصويرها بتصويرية واضحة في وسائل الإعلام –مما يسلط الضوء مرة أخرى، بصور مقلقة جداً ولا يمكن محوها، على غطرسة القادة الذين يخدعون أنفسهم بالاعتقاد ان بوسعهم السيطرة على ما هو غير القابل للسيطرة.
الغد الأردنية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً