منذ انطلقت شرارة الحراك العربي في تونس لتمتد الى اليمن وليبيا ومصر فسوريا ، تحرك الشارع العربي بهبات متوالية وانتفاضات عارمة لتهز عروش الانظمة الحاكمة التي تحكم شعوبها بالحديد والنار ، وكنا منذ البداية منذ ان اضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار بجسده مع هذا الحراك ومع مطالب الشعوب المحقة بالحرية والديمقراطية ومع كل الحقوق والحريات التي ينادي بها المواطن العربي من المحيط الى الخليج .
مع المطالب العادلة ، ومع النضال الشعبي السلمي لشعوب الامة العربية ، وضد أي شكل من اشكال الوصاية والتدخل الخارجي والاستقواء بالخارج كما فعلت بعض القوى الدخيلة بهدف اسقاط انظمة بالقوة العسكرية وبالحصار الاقتصادي ليتبدل هذا النظام الديكتاتوري بهذا النظام الاكثر ديكتاتورية والأكثر تبعية للخارج الاستعماري ، وكأن نضال وكفاح الشعب العربي كان من اجل تبديل حاكم بحاكم وليس النضال الجذري الشمولي بهدف تغيير النهج وانتهاج نهج الانفتاح والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطات ، فهذا هو المدخل الحقيقي لانتزاع حقوق ومكتسبات الشعوب .
مع الثورة ومع الحراك الشعبي في كل بلد عربي ، مع هذا الربيع المفعم بالأمل والمستقبل بعيدا عن صخب الشعارات البراقة ومحاولات التسلق من قبل البعض ، بعيدا عن تسييس الدين وتديين السياسية ، بعيدا عن الاجندات والدولارات وتعليمات الخارج ، من اجل الشعوب ووحدتها وحقوقها ، كان لا بد من هذا التحرك ولكن يفترض بالثوار ان يكون لديهم مستوى عال من اليقظة وإدراك التحولات ، فالتحول الديمقراطي لا يمكن ان يتم بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية وإيجاد مقاربات مع النقيض ، واستهلاك الشعارات المستهلكة والبالية .
ان نضوج الحالة الثورية تتطلب قيادات وتتطلب حزبا قويا وواقيا نابع من ارادة الجماهير ، وهناك من الجماعات من جرب لسنوات وسنوات ، فهل يدرك الشعب العربي ما يحاك له ، وخاصة في التصريحات العديدة عن ربيع الاسلام السياسي وتقبل الاسلام نظاما للحكم .
ليس لدينا أي شك بان الشعوب العربية انتفضت من اجل حقوقها ومن اجل كرامتها الانسانية في ظل ما تعرضت له من قهر واستعباد لعقود طويلة ، ولكن هذا لا يعفي الثورات من تماسكها وقدرتها على تحقيق الانجازات ، تجربة تونس تجربة عظيمة ينبغي الاستفادة منها ، رغم ما صاحبها من تصحر لدى القوى السياسية واليسارية منها بشكل خاص مما ترك الساحة مسرحا مستباحا من قبل الاسلاميين ، وهذا ما تجلى في مصر التي خرجت جماهيرها دعما وإسنادا للثورة مع غياب واضح للأحزاب والقوى السياسية ليلتقط الاخوان المسلمون اللحظة التاريخية ويستثمروا هذه اللحظة في ظل غياب الاخرين !!.
ان الخارج الاستعماري ومعه الامبريالية والصهيونية وقوى الرجعية يبذلون كل امكانياتهم من اجل سلب هذه الثورات وضمان سيرها في فلكهم واحتواءها واحتواء المفكرين والمنظرين لهذه الثورات واستضافتهم في المؤتمرات وعبر القنوات الفضائية التي تعمل وفق اجندات واضحة ودقيقة وخطيرة ، كل ذلك بهدف تقويض مقدرات الامة العربية وإنهاك الجيوش العربية وجعلها مخصية وغير قادرة على الفعل واستخدامها لتلبية متطلبات وتوجيهات الخارج الاستعماري والقوى المتواطئة معه من اجل استكمال مسيرة الاحتواء وتجزيء العالم العربي وتقسيم البلدان العربية وصولا الى تفتيت الامة العربية وضرب العمق العربي للقضية الفلسطينية التي شكلت يوما القضية المركزية لعموم العرب .
ان ” ثورة الياسمين البيضاء ” في تونس ، التي أدت إلى هذا التحول الديمقراطي الهام في تونس ، وفتحت الأفاق أمام تعزيز وتطوير الممارسة الديمقراطية ، وضمان التداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية ، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، وضمان حقوق الانسان ، والحريات العامة ، تشكل نموذجا للنضال الشعبي السلمي بعيدا عن عسكرة الثورة والاستقواء بالخارج ، العفوية الثورية والزخم الشعبي اسقطا نظام زين العابدين .
إننا نحترم الارادة الشعبية وخيارات الشعب التونسي في اختيار لقيادته ، وسعيه لإحداث التغيير باتجاه ضمان حريته ومستقبل شبابه في دولة مستقرة تسودها الديمقراطية والتعددية والحفاظ على مكتسبات وثروات الشعب التونسي ، وتوفير مناخ ديمقراطي يكفل التقدم والتنمية للشباب التونسي.
في سورية الاوضاع جد خطيرة ويتحمل النظام السوري والمعارضة السورية المسؤولية على ما آلت اليه الظروف والأوضاع في هذا البلد العربي ، وهذا يتطلب الخروج فورا من هذه الدائرة وترسيخ الوحدة الوطنية السورية والتخلص من أدران المرحلة السابقة وافرازاتها والتوحد في مواجهة التحديات التي تواجه المستقبل السوري ، حيث اننا لا نتمنى إلا الخير لسوريا ولا يمكن لنا ان نفرح للمجازر والمذابح التي يتعرض لها السوريون بغض النظر عن من يقف وراء تنفيذ هذه الجرائم ، ينبغي بأن تكف الاطراف الخارجية عن التدخل في الشأن السوري وان نعطي فرصة لسلسة الاصلاحات التي تقوم بها الحكومة السورية ، فلا يمكن ان يحدث الاصلاح بين عشية وضحاها ، فلتعطى الحكومة السورية فرصة ، نعم فرصة بعيدا عن قيود وشروط الجامعة العربية والدول القائدة لهذه الجامعة .
اما في مصر ، أم الدنيا فالوضع اشد خطورة ويدي على قلبي مما قد يحدث في مصر بعد الانتخابات الرئاسية التي ستجري جولة الاعادة في السادس عشر من هذا الشهر بين كل من أحمد مرسي ، مرشح الاخوان المسلمين ، وأحمد شفيق ، المتهم بأنه من فلول النظام السابق ، حيث تجري الامور بصورة متسارعة وهناك حالة غليان في الشارع المصري وفي ميدان التحرير بالقاهرة خاصة الذي تحول الى مسرح يومي للمناكفات السياسية وللتراشق الاعلامي بعد ان تسلق البعض واخذ يقطف اغصان الثورة غصنا بعد غصن .
شخصيا فاجئني الصعود الكبير للمرشح الشعبي اليساري الناصري حمدين صباحي ، وكنت أتمنى لو اتيح له المنافسة في جولة الاعادة لكتب تاريخا جديدا لمصر بعيدا عن حملة شعار ” الاسلام هو الحل ” وبعيدا الليبراليين وطروحاتهم ، ولكن هذا هو الواقع المصري وهذه هي ارادة المصريين التي احترمها ، حيث ستجري انتخابات الاعادة بين طرفي نقيض ، ولكن ايضا لا يمكنني ان افهم كل هذا العداء لشفيق وكل هذه الاتهامات التي توجه ضده باعتباره جزءا من النظام السابق ، وكأن مصر العزيزة برمتها لم تكن جزءا من النظام السابق لأربعين عاما متواصلة بمن فيهم جماعة الاخوان المسلمين .
اتمنى ان تنضج ثورات ربيع العرب وان تتكلل بتحقيق اهدافها ، فهل يفاجئنا العرب العرب بتحقيق اهداف الثورات بنضال عربي يستند للموروث الثقافي الحضاري ولمجموعة القيم التي تكونت على مدار قرون من العطاء والتميز العربي .
آمل الخير والاستقرار والازدهار لبلداننا العربية على طريق النهضة والتطور وتلبية حاجات ومتطلبات الشعوب العربية التواقة للحرية ومستقبل السلم الاجتماعي والدولة المدنية الديمقراطية التي تساوي بين كافة مواطنيها في الحقوق والواجبات .
نعم انا مع الربيع العربي ، نعم انا ضد أي تدخل خارجي في اوضاعنا العربية .