القدس العربي – سعيد خطيبي/ يرسم بوداود عمير وجوهاً جزائرية، لم نتعود النظر إليها، ولا نعرف صوتها، ينسحب إلى الهامش، إلى مناطق الظل في جنوب البلد، يُغامر في رمال الصحراء وتحت شمسها، ويضع القارئ في حواريات مع أشخاص عاديين، منسيين، مُحبطين من سيرهم المتشابهة في ما بينها، ومن يومياتهم الرمادية والثقيلة، يحركهم في فضاء خالٍ، ضاق بما وسع، صامت وغير مبالٍ بما يحصل من تحولات كبرى في البلد، يُجالسهم وينصت لحكايات كل واحد منهم، ويُسافر أحياناً معهم إلى الشمال، إلى بقاع مختلفة من البلد، حيث إيقاع الحياة أكثر صخباً وصدامية، يسخر منهم تارات، وقد يرثي حالهم ويُعيدهم من حيث أتوا، في مجموعته القصصية الجديدة «صوب البحر» (دار كلمة، 2017)، تتكثف الحكايات ومصائر الشخصيات، لتحيل القارئ إلى مُشاهدات استثنائية، لأناس يفضلون العزلة على الأضواء.
يبدو أن الجزائر بلد معادٍ للقصة القصيرة، بعد أن كان هذا النوع طاغياً، في السنوات الأولى من الاستقلال، وتوسع خصوصاً في السبعينيات، صرنا لا نُصادف، في العشرية الأخيرة، كثيراً من المجاميع القصصية اللافتة، فمعظم الكتاب هجروا هذا الجنس الأدبي وانسحبوا – طواعية – للرواية (أو للمسرح أحياناً)، وهو أمر يعكس تحولاً في ذائقة القراء أيضاً، وبوداود عمير من الكتاب القلائل، الذين حافظوا على علاقة بروستية مع القصة القصيرة، التي يكتبها منذ أكثر من عشرين سنة. وفي مجموعته الأخيرة يكتب عن المناطق البعيدة، التي قد نسمع عنها، لكن لا نعرف فعلاً ما يحصل فيها.
«في العقدين الأخيرين، اكتسحت الرواية كل شيء في طريقها أو تكاد، ليس في الوطن العربي حسب، بل في العالم. فكان طبيعيا أن تتأثر القصة القصيرة بوصفها الحلقة الأضعف في المُعادلة. غير أن فوز سيدة القصة القصيرة، الكندية أليس مونرو بجائزة نوبل للآداب 2013، منح بصيص أمل لهذا الجنس الأدبي، ليعود من جديد للواجهة ولو باحتشام، أضف إلى أن فضاءات التواصل الاجتماعي أتاحت نسبيا للقصة، خاصة القصيرة جدا، حيزًا من التواجد، كونها تعتمد على خاصيتي التكثيف والإيجاز» يقول بوداود عمير.
جسد القصة القصيرة المنهك في الجزائر، يشبه جسد سليمان، في قصة «النشيد»، فبعدما شارك في حرب التحرير، وقضى عمراً في سرد البطولات المتخيلة، دون أن يفعل شيئاً للدفاع عنها، ولا للحفاظ على ما تبقى من «استقلال»، انسحب – شبه مهزوم – إلى داخله، يدفئ ذاكرته بماضيه، وهو يُشاهد أجيالاً جديدة تتخلى عنه، وغير مهتمة بحكاياته عن الثورة، وتبلغ الصدمة أوجها حين يعرف أن أبناءه يشجعون منتخب فرنسا لكرة القدم، ويستمعون بخشوع للنشيد الفرنسي، قبل كل مباراة. حينها فهم سليمان أنه خسر معاركه الماضية، والحاضرة في آن. وهي خسارة صغيرة مقارنة بالخسارات الكبرى في البلد. أليست الخسارة جزءا من لعبة الربح؟ هذا ما لم ينتبه إليه سليمان، حسم أمره بأنه خسر ما بناه، وأن ماضيه، الذي ظل عقوداً يسرده أمام شباب صار بلا قيمة. هكذا لا ينزع بوداود عمير نحو تضخيم البطولة، إنه يجعل منها مادة للسخرية، تعكس جزءًا من المفارقات التي تعيشها الجزائر، بلد يشيد راهنه بترتيل سنوات ماضيه. «يبدو منطقيا في حدود معينة، أن ننتصر لماضينا على حساب حاضرنا، لاعتبارات يقتضيها ربما حنين طبيعي في الاستئناس بالماضي، لكن أن يصبح حاضرنا أفضل من غدنا، ويأخذ التوجس منحى تصاعديًا في اتجاه الخوف من المجهول، الأمر الذي يشكل بوادر يأس تدب في أوصال الناس، من شأنها أن تقضي على كل بصيص أمل نحو غد أفضل»، وهو الشعار الذي أطلقه الحزب الواحد، في بداية استقلال الجزائر، سرعان ما افتضح زيفه، إذ لا يزال الحزب الحاكم يحتل مرتبة «الواحد»، رغم وهم التعدد الحزبي. ولأمر ما تساءل إدريس شرايبي في حسرة: «هل سيكون لنا ذات يوم مستقبل آخر يشبه ماضينا؟» يضيف الكاتب.
بوداود عمير يكتب بلغة اليومي والعادي، لا يبحث عن زخرفة نحوية، يهتم بالحدث عارياً ومجرداً أكثر من الحفر اللغوي ـ الذي يقتل القص أحياناً ـ ينزل إلى شخصياته، يتحسس هواجسها وكوابيسها، يقف إلى جانبها مرات، دفاعاً عنها، ويحصل أن يتنصل منها ويتركها تواجه أقدارها لوحدها، يقتصد في كلماته، يكتفي بأصول الأشياء، ويشحن لغته بحواريات وتوصيفات مباشرة، يذهب في قصصه «براءة، الرجل الذي فقد خطه ولعبة أطفال» إلى مخاصمة سلوكيات الجزائري الصلبة، عناده المستديم، انغلاقه الفكري وتصديقه – غير المبرر – للخرافات وللتأويلات الميتافزيقية للواقع. الجزائري له شخصية مركبة، صدامية، غير مُهادنة في أحيان كثيرة، وهو ما يركز عليه الكاتب، يفسره بما عاشه الجزائري من صراعات داخلية، في السابق، وبعنف المراحل السياسية التي مر بها، لكنه تفسير غير كافٍ، بحكم أن الجزائري لم يبذل جهداً للخروج من وعاء الخشونة، وظل يدور، باستمرار، حول حلقات الغلاظة والفظاظة والقسوة، فالجزائري، على خلاف جيرانه، يؤمن بماضيه، ويحن إليه أكثر مما يؤمن بضرورة عيش اللحظة الآنية. إنه كائن ماضوي بامتياز، صادق في تعلقه بما مضى، ومستسلم لما يدور حاله، يجد في التاريخ القديم «فانتازم» يعلق عليه الخسارات المتوالية التي يعيشها.
في قصة «صوب البحر»، يظهر الجزائري الجنوبي، في انفصاميته، مرهقاً من روتين يومي، ومن إهمال سياسي، ولا يهمه سوى الابتعاد عن الجغرافيا التي وُلد وكبر فيها، ففي الجزائر يسود اعتقاد أن الحياة تزداد قتامة كلما مشينا جنوباً، ميزان التوازن الجهوي يختل كلما توجهنا قليلاً نحو الصحراء، وأن تقسيم الثروات يبدأ من الشمال وينتهي ـ هرمياً ـ في الجنوب، مع أن خيرات البلد كلها (من غاز وبترول) تخرج من تحت أقدام الجنوبي. ويعود القاص أيضا إلى سنوات المحنة الكبرى، في تسعينيات القرن الماضي، ويرسم بورتري لمثقف، في نص «المُطارد»، هذا المُطارد هو المثقف نفسه، الذي تركه وطنه واستبعده، ليجد نفسه وحيداً، لا يبحث سوى عن خلاص فردي، بعد أن كان يفكر – في ما سبق – في خلاص جماعي. مثقف يعيش بين كتاب وسيجارة وفنجان قهوة، كما عبر عليه في قصة «سرقة».
بين قصص قصيرة وأخرى قصيرة جداً، يستعيد بوداود عمير خيبات الجزائري الحالي، يسخر منه، يغامر معه من الجنوب إلى الشمال، يرثي حاله، ويدفعه للنظر إلى نفسه كما هو، من غير ألوان ولا مجازات، ينتصر في مجموعته القصصية للأصوات الداخلية، المقموعة، يتحاور مع جزائرية حاولت أن تصير «فيمينيست» وفشلت، رغم كل الشعارات والنداءات واللافتات والخطابات، مازال البلد ذكورياً، يجرجر «نوستالجياه» معه، من عام لآخر.
٭ كاتب من الجزائر
رحلات الجزائري الضائع… من الجنوب إلى الشمال

Leave a comment