كتب يوسف الشايب:رحل، أمس، في العاصمة الألمانية برلين، الفنان التشكيلي والناقد والمؤرخ الفني الفلسطيني كمال بُلّاطة، عن عمر يناهز السابعة والسبعين، وهو من مواليد القدس العام 1942، حسب تصريح صحافي لأسرته، أشارت فيه إلى أنه رحل بشكل مفاجئ فجر أمس، في منزله ببرلين، لافتة إلى أنه كان يمنّي النفس أن يُدفن في القدس، وإلى أنها، أي عائلته، تواصلت مع عديد المحامين، في مساعٍ منها لتحقيق رغبته هذه، إن لم تحل سلطات الاحتلال دون حقه وحقها في ذلك.
ورحل بُلّاطة بعد رحلة حافلة بعديد الإنجازات على صعيد التأليف والكتابة والنقد، وكذلك على الصعيد الفني، والسياسي أيضاً، بحيث بات من أبرز التشكيليين العرب في العالم، إلى جانب ما تمتع به من شهرة واسعة في مجالي دراسة ونقد الفن الفلسطيني خاصة، والفن العربي والإسلامي عامة.
ونعى بُلّاطة العديد من أصدقائه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقال الروائي اللبناني إلياس خوري: كمال بُلّاطة الفنان الفلسطيني الكبير، الصديق والأخ الحبيب، تبكيك القدس ويبكيك قلبي .. كمال بُلّاطة وداعاً.
أما الشاعر الفلسطيني غسان زقطان فكتب ناعياً: وداعاً كمال بُلّاطة، الفنان الجميل والروح الساحرة، في حين كتب الفنان الفلسطيني هاني زعرب: لا عجب أن المنافي تدعهم يخرجون من ثقبها الأسود الكبير في الصيف، لتعانق أرواحهم الضوء الذهبي لتلك المدن التي ولدوا فيها .. نودع كمال بُلّاطة، الإنسان الاستثنائي والفنان، الذي وهب عمره لقضية شعبه، وأعطى كل ما يستطيع، وانتظر دائماً أجيالاً عربية جديدة تكمل لوحة الحريّة التي كان من أصدق رسّاميها.
وكان بُلّاطة حاز على جائزة محمود درويش للإبداع هذا العام، حيث أشارت لجنة التحكيم إلى أن الفنان ابن القدس، امتلأت طفولته بوجع النكبة والتهجير والتشريد، وأن المعرفة والإبداع كانا أحد أساليبه للاستمرار والنضال، وأنه تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة بروما، ثم واشنطن قبل الاستقرار في المنفى (الولايات المتحدة، والمغرب، وفرنسا، وألمانيا).
وقال بيان لجنة التحكيم وقتها: أدرك كمال بلاطة بعد فترة الستينيات، التي تتميز بالاستكشاف، أنّ طريق الفن التشكيلي التي اختارها تقتضي أن يدرك مسؤوليته المزدوجة في ترسيخ التأسيس والمراهنة على التجديد، ليتمكن الفن الفلسطيني أن يفرض نفسه عربياً وعالمياً.
ومن نتاجه، نشر دراسات عن الفن الإسلامي والعربي الحديث باللغتين العربية والإنكليزية في عدة مجالات، ومنها الشؤون الفلسطينية، والكرمل، ومجلة الدراسات الفلسطينية، وفنون عربية، ومواقف، ومجلة الآخر، وفي الاتجاه التأسيسي والتنظيري نفسه نشر كتابي الفن الفلسطيني خلال نصف قرن، واستحضار المكان، وكتاب بين الداخل والخارج عن أعمال الفنان هاني زعرب، كما ساهم في العام 1974 بوصفه عضواً في مؤسسة دار الفتى العربي، بإخراج سلسلة كتب للأطفال، ونظم أثناء الانتفاضة الأولى معرضاً فنياً متجولاً في الولايات المتحدة، برزت فيه رسومات أطفال الحجارة.
كما اهتم بُلّاطة بأعمال محمود درويش، وفي 1979 نظم قراءة شعرية لمحمود درويش في الولايات المتحدة، وطالما جسد بلاطة، كما درويش، قيم الحرية والإنسانية والهوية والكرامة والجمال، هو الذي انتهى منذ فترة قصيرة من إنجاز كتابين كبيرين بالإنكليزية يضمّان مختارات من كتاباته في النقد التشكيلي والفن العربي والإسلامي، وكان يشتغل في الفترة الأخيرة على سلسلة فنية جديدة باستعمال تقنية الرقش، حين عاد من بيروت، الشهر الماضي، بعد أن قدّم محاضرة بعنوان “سَفر بين الشفافيّات” في دار النمر للفن والثقافة.
وتعلم بُلّاطة الرسم في القدس حيث ولد، وتحديداً في مرسم الفنان المقدسي خليل حلبي في حي “باب الخليل” في القدس، ثم درس الفن في “أكاديمية الفنون الجميلة” في روما (1960– 1965)، وعند احتلال القدس الشرقية العام 1967 كان في زيارة إلى بيروت لإقامة معرض هناك ولم يُسمح له بالعودة إلى فلسطين المحتلة.
وعاش بُلّاطة في المنفى حتى رحيله ولم يعد للقدس سوى “زائر” بجواز سفر أجنبي العام 1984 حيث صور المخرج الدنماركي رودولف فان دِن بيرغ فيلماً وثائقياً بعنوان “غريب في بيته” عن عودة الفنان الناقصة إلى مدينته المحتلة.
ومما قاله بُلّاطة في إحدى المقابلات التلفزيونية: قدري أن أعيش بعيداً عن موطني فلسطين لأكثر من نصف قرن، وتنقلت بين عدّة دول .. هذه المسيرة مستمرة، والرحلة هذه جزء من تجربتي الشخصية، وأعتقد أنها كذلك السبب وراء كتاباتي ولوحاتي، فأنا لست رساماً فحسب، ولا أعتبر نفسي رساماً .. بالنسبة لي الكتابة هي طريقي نحو الوطن .. أكتب بالعربية والإنكليزية حول الفنون والحضارة العربية، أما الرسم فهو وجودي في الوطن .. هكذا أجمع بين الأمرين في ذات الوقت خلال مواصلتي للحياة.
عاش بُلاطة في الولايات المتحدة وشارك في مبادرات ثقافية عديدة، قبل أن يترك واشنطن ويتوجه إلى المغرب في تسعينيات القرن الماضي، حيث عاش لبضع سنوات هناك، أجرى خلالها مجموعة من الدراسات عن الفن الإسلامي والأندلسي. ثم انتقل بعدها إلى بلدة مونتون في جنوب فرنسا، والتي تركها قبل سنوات قليلة في تغريبة جديدة إلى برلين التي وصلها على مشارف السبعين من عمره، وتوفي فيها.
ويعدّ بُلّاطة أحد مؤرخي الفن القلائل في العالم العربي، فقد وضَع سلسلة من الأعمال النقدية من أبرزها كتب مثل: “استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر” (2000)، و”الفن الفلسطيني – من 1850 إلى اليوم” بالإنكليزية (2009)، هو الذي رسم عدداً كبيراً من ملصقات المقاومة الفلسطينية التي تضيء جوانب الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، إلى جانب نشاط ثقافي واسع لصالح القضية الفلسطينية وقضايا التحرر. وحين اشتعلت انتفاضة العام 1987 الفلسطينية ألّف كتاباً بعنوان “شهود أوفياء.. أطفال فلسطين يعيدون خلق عالمهم” يضمّ مجموعة من رسومات لأطفال من فلسطين لم يتجاوزوا الـ 14 عاماً، وقدّم للكتاب وقتها جون بيرجر.
عرف عن بُلّاطة صداقاته مع الشعراء إذ أقام معارض مع بعضهم وأنجز كتبا فنية لمجموعة منهم، كما ترجم للإنكليزية قصائد لمحمود درويش (في بدايته قبل أن يترجم للإنكليزية) وأدونيس (أحد أول ترجماته للإنكليزية أنجزها بُلّاطة بالتعاون مع ميرين غصين)، كما ترجم وقدّم آخرين غيرهما، فيما تُرجِمت عديد مؤلفاته إلى اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية والعبرية والإسبانية.