لم تعرف شعوب العالم مرحلة تاريخية ممتلئة بانتصار ارادات الشعوب، التي قادتها أعلام ثورية،كتلك المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية،حيث شهدت الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي معجزات التحرر الوطني والاجتماعي للشعوب والطبقات المقهورة تاريخيا من قوى الاستعمار التي استغلتها لثلاثة قرون خلت…..
لقد كان من موجبات المد الثوري على مستوى القارات الخمس، التاثير المباشر على المنطقة العربية التي تحررت معظم اقطارها تحررا وطنيا نسبيا ،وعلى القضية الفلسطينية التي تمثل جوهر المسألة الشرقية كما كانت تسميها المدارس السياسية حتى مطالع القرن العشرين.
وفي ظل ارهاصات وتفاعلات العمل السياسي في فلسطين على امتداد فترة الانتداب البريطاني و ما اعقبها من حرب عام 1948 اثمرت عن اعلان الحركة الصهيونية باقامة دولة اسرائيل، فان التدخل العربي الانهزامي في هذه الحرب انتصر على الشعب الفلسطيني وهيمنت مصر على قطاع غزة في حين ضمت الاردن الضفة الغربية، بدلا من اعلان استقلال دولة فلسطين على هذه الاراض الفلسطينية .
وفي هزيمة تالية للنظام السياسي العربي عام 1967 احتلت اسرائيل ما تبقى من ارض فلسطين، ليسجل التاريخ انشاء دولة الصهاينة على اوراق عربية رسمية لم يكن للفلسطينيين شأن يذكر في سطر سطورها….على الرغم من تأسيس هذه الهزائم العربية لثقافة (ارفعوا ايديكم عن الشعب الفلسطيني وحركاته السياسية)؟
فقد كانت تتبارى الانظمة العربية في كبح اي فعل ثوري للنضال من اجل تحرير فلسطين، الا اذا استثنينا مراحلا قصيرة كانت تستدعي من هذا النظام او ذاك التلاعب بالفلسطينيين والورقة الفلسطينية في وجه نظام عربي اخر مع استقرار حالة – السلام الخفي – او اللاحرب في مواجهة اسرائيل.
وطوال تلك الفترة تعاملت انظمة الاقطاع العربية مع الطموحات النهضوية والحركات الثورية وعلى رأسها حركة القوميين العرب بمنتهى القسوة والقمع بمبررات يسوقها كل نظام على مقاسه، الا انه ورغم عدم قدرة هذه الحركة على الوصول للحكم فقد اسست للتغيير على مستويات عدة مهدت الطريق امام ثورة عبد الناصر والانقلابات التي قادها ضباط قوميون وحتى تسنم بعض الاحزاب القومية كالبعث للحكم في سوريا والعراق.
اما على مستوى الساحة الفلسطينية فان خيبة الامل الوطنية من النظام العربي القومي بعد عام 1967 ادت الى تعزيز موقف اليسار القومي والداعي الى اطلاق الكفاح المسلح من جانب منظمات الحركة القطرية في امصار تواجدها، بل وحتى اجراء تحولات ايدولوجية لدى بعض هذه المنظمات يسارا نحو الماركسية بشكل افقد منظومة الحركة القومية الفلسطينية على التحرك المتماسك والذي يحافظ على هياكلها وحضورها.
وازاء هذه التحولات والانقسامات بادرت مجموعة من الشباب القومي الفلسطيني بقيادة المرحوم الاستاذ بهجت ابو غربية ود. صبحي غوشة ود. سمير غوشة وكوكبة اخرى من قادة الخلايا القومية في القدس تحديدا في منتصف تموز 1967 وكرد مباشر على استكمال الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين بتاسيس جبهة النضال الشعبي الفلسطيني .
ولسنا هنا بصدد استعراض سنوات النشأة وتطور الجبهة ودورها الفاعل في مراحل النضال الوطني الفلسطيني، وانما لمحاولة الاجابة على تساؤلات تتعلق بحجم هذا التنظيم المناضل والذي تجاوزته احجام تنظيمات اخرى انطلقت قبله وبعده من مختلف المدارس الفكرية.
وما يدفع للبحث في هذه التساؤلات هو تطور تقنيات المعرفة والاعلام التي تغرق الفضاء والارض بثقافة تسطيحية للفكر السياسي…وليس اوضح من ذلك تقديم القرضاوي كقائد نظري للربيع العربي…وما هو باكثر من متهادن مع اعداء الشعوب الاسلامية غربا وصهاينة، وتقديم عزمي بشارة كقائد قومي(ما بعد ماركسي) للتحرر والديمقراطية…وهو من خرج من المواجهة المباشرة مع العدو خشية السجن الذي يتباكى على الرابضين فيه….
وللشيخ نقول…لقد سلمت ما تبقى من مفاتيح الامة الاسلامية السنية لاسرائيل…
وللبطل المنظر القومي نقول…..السجن ايضا خط نار مع العدو فاسأل شيخك عن حكم التولي يوم الزحف شرعا ايها المتولي…
وعودا لموضوعنا وللاجابة على هذا التساؤل فان اعلاميات التضليل التي تقدم ابطال اليوم ،لم يكن لها مهمة في السابق مع اسيادها سوى نفي وجود الاخر الوطني والثوري والتشكيك فيه، مستندين الى ولائهم لانظمة تضع المال والاعلام في خدمة المضللين افرادا ومؤسسات وتنظيمات،،،،فمن اين تأتي جبهة النضال بمن يدافع عن مواقفها وفكرها ويروج لها اسوة بمن انتفخوا ضلالا وعندما ازفت ساعة العمل الحقيقي تقزموا ككرة هواء داسها الصغار.
ولكن جبهة النضال الباقية في حسابات الفصائل الصغيرة مستمرة في الحفاظ على بقائها والنهوض والتقدم كلما امكن الامر ذلك كما لاحظنا المد الذي شهدته في المعارك الانتخابية الطلابية مؤخرا ….ونشاط مؤسساتها الجماهيرية الاخرى.
ان جبهة النضال كما لم تجمع اموال الزكاة ولم تبع مواقفها لنظام بعينه، تدرك بان قدرتها على تمويل بقائها بالحد الادنى تبقى قيد المخاطرة…. وان محاولاتها للتطور مرصودة محليا واقليميا،ولكنها وبقيادتها المتجددة مصممة على الذهاب الى افاق الكفاح دون تردد او وجل.
ومع ادراك قيادة الجبهة وكوادرها لنقاط الضعف والقوة، فان التوجه للمعالجات الجدية بتعزيز نقاط القوة وادارة الضعف لخدمة التطور، ييبقى الخيار الوحيد في ظل غياب القادة المؤسسين، وحلول زمن صعب لا يجتازه الا من التحم بفكر الجماهير وتطلعها نحو التحرر والعدالة الاجتماعية التي تضمن فلسطينا للفلسطينيين عامة….وليس لنخب اقتصادية او ثقافية او طفيلية….
ان تخليد ذكرى قادة عظام ، هم من صاغوا عظام الثورة الفلسطينية المعاصرة وكسوا العظام نضالات وتضحيات جسام ،لا يتم باحتفاليات لم تنال اهتمامهم في حياتهم فكيف في مماتهم…بل تكون احياء الذكرى بدراسة تجاربهم وتأمل قراءاتهم وتشرب صلابتهم المبدئية وتحيزهم الطبقي للفقراء والمحرومين…..وابعد من ذلك بانتهاج سلوكهم الابداعي في شباب الثورة ، وابداع الجديد ، بدلا من الانشغال بتقليد الشكليات السلوكية، واسترجاع المهضوم من العمل ،والذي يتحول الى مقتلا للحركات الثورية التي تدور في حلقة مفرغة لطحن الماء.
ولعل ابداع القيادة في التعاطي مع المتغيرات السياسية والايدولوجية الدولية حفاظا على ادوات التحرر الوطني، لا يعني بحال من الاحوال التجمد في (ثلاجة)التاريخ،والبقاء على ذات المنحى والسياسة الى ابد الابدين.
وانما يقتضي الفكر العلمي ،واستنادا للوقائع المادية التي يخوضها المجتمع الفلسطيني والمؤسسة السياسية بمختلف اطيافها ،اعادة دراسة المرحلة والاولويات والتطورات التي جرت خلال عقدين بكل اثارها.
فقد انجبت التجربة الفلسطينية بعد اوسلو واقعا سياسيا واقتصاديا لشبه دولة،انعكس بالضرورة على بنية المجتمع الفلسطيني وابرزت سمات لا بد لاي حركة سياسية واجتماعية من اخذها بعين الاعتبار واهم هذه السمات :-
اولا:وضوح تطور الفرز الطبقي وظهور شرائح الغنى الفاحش واصحاب (الشركات ) والوكالات مرتبطة المصالح بالاحتلال والراسمالية العالمية بشكل عضوي.
ثانيا: تفاقم الفساد السياسي من لحظة ولادة السلطة بالتعاون بين بعض رجالات السلطة وراسالمال الطفيلي،مما يسر وسهل تسرب الملكيات العامة لجيوب مجموعة صغيرة رات في الوطن مزرعة مشمش تقتضي القطاف السريع،حيث تم بيع امتيازات الاتصال واستخدام الاثيرر لشركات خاصة …استكملت بعد عقد ونصف بدخول الشركات الفرنسية على حقل المياه..وادارته..
ثالثا: تبني مقولات الاقتصاد الليبرالي التحرري في وطن غير محرر مما فتح الابواب جميع انواع الانتهاكات للسوق الفلسطيني الفاقد لمقدرات المناعة المقيدة الى كلبشات اتفاق باريس الاقتصادي، مما ادى الى انتكاس الصناعة الفلسطينية الناشئة والتي استطاعت في بعض قطاعاتها تحدي صناعات الاحتلال، وتحول بعض اصحاب الصناعات الى الاستيراد من تركيا والصين….والذين ارتقوا الى مصاف نخبة الحكم دون رصيد او اتصال بتاريخ نضال الشعب الفلسطيني
رابعا:تعمق واقع الانقسام الجغرافي والسياسي والاقتصادي بين الضفة الغربية وقطاع غزة،مما يخلق قواعد مادية لدولة غزة اكبر بكثير من التمنيات وشعارات انهاء الانقسام الهزلية،خاصة وان شرائح التنفذ في غزة والضفة، التحمت مصالحها ومبررات وجودها بتكريس الانقسام.
خامسا: تهتك وضعف البنى التنظيمية للفصائل الفلسطينية التي تعيد انتاج اليات القيادة والتفرد والاستئثار بالغنائم بمنطق تهميش القيادات الجماهيرية والعمل القاعدي والاهتمام بنظام مكتبي غير منفتح، دونما ادراك ان هذا الجزء الموروث من البنى الستالينية للفصائل سيودي بها الى الوقوف في الهواء والسقوط في هاوية المتغيرات التي ستهب من حولها دونما دور لهذه الفصائل في مسار العاصفة …كما اثبتت التجارب في متغير تونس ومصر وعوامل التغيير فيهما.
وفي ظل هذه القراءة فان مراجعة ابداعات المؤسسين الثوريين في التعامل مع مثل هذه التطورات المتطرفة في الاجتماع السياسي والبناء التنظيمي ،واستيعاب القفزات الدراماتيكية التي قاموا بها في مراحل فاصلة من مراحل النضال الفلسطيني، للانتقال الى ارضيات عمل جديدة، لا بدو وان تقدم المؤشرات الصحيحة لاتجاهات التغيير في هذه الفصائل، والتي يمكن رصدها على النحو التالي :-
الارتقاء بالبنى التنظيمية بما يضمن صناعة عشرات ومئات الكوادر التنظيمية ذات الصلة المؤثرة بالتخطيط والتقرير والتنفيذ، واستبعاد حالة التكثف المركزي حول القرار والمقدرات التنظيمية.
تبني نهج اعلامي قائم على تصنيف المعلومة ومخطط توجيهها والعمل على بناء كل مناضل كالة اعلامية تحريضية متنقلة بالاستفادة من الافاق المفتوحة لتطور الاتصال الجماهيري والانساني …القطاعي والمفتوح.
اعادة صياغة التحالفات الحالية والمستقبلية بما يضمن قدرة التنظيم على البقاء في قلب الفعل السياسي،وعدم استسقاء وجوده من قوى مركزية على الساحة.
تقديم قيادات سياسية ومهنية للمجتمع باعتبار العمل السياسي مهنة وليس هواية تتم ممارستها في اوقات الفراغ من وظيفة اخرى وذلك وفق خطة متكاملة لبلوغ هذا الهدف.
اعادة النظر في الهوية الاجتماعية للتنظيم،( اذ ان كافة الفصائل تعتبر تحرير فلسطين هدفها العام) لان في تحديد هذه الهوية انعكاس مباشر على الفئات المستهدفة في اوساط الجماهير كأدوات كفاحية وطنية ذات غاية اجتماعية مرتبطة بمتطلباتها.
وقد لا تكون مجمل القضايا المطروحة بمثابة البلسم لشفاء هذا الفصيل اوذاك وانما هي افكارا عامة وقواعد خام لمناقشة موضوعة المستقبل والتوصل الى نتائج واستخلاصات اكثر وضوحا وشمولية ،تساهم في التاسيس لنضال الاجيال واستكمال المهمات الوطنية بعد ان تجمد الحال في واقع المؤسسة السياسية الفلسطينية، وانحصرت افاقها في التماهي مع برامج واجندات غير فلسطينية لدول طامعة واحتلال غشوم ،حرصا على مصالح ضيقة لنخب واحزاب حاكمة، ببركات هذا التماهي .
خلاصة…فان العودة لمنطلقات رواد الثورة الاوائل والتدقيق في مبناها وادواتها قد يفتح بوابة الخلاص من قدر محتوم ينتظر المؤسسة السياسية الفلسطينية، بعد ان اودى بالمؤسسة العربية الجمهورية القومية التي تبنت المؤسسة الفلسطينيةخلال العقود الماضية.
وكأنني في هذه اللحظات استذكر اخر كلمات سمعتها من الراحل الكبير د. سمير غوشة..( ان عدم الاسراع في مواكبة الاحزاب لحالة الغليان الشعبي في الدول العربية سياتي بالتغيير من خارج احزابها الرسمية،كما ان الساحة الفلسطينية ستتعرض للتغيير الجذري وبشكل يغيب معظم قواها السياسية ما لم تسرع هذه القوى في اعادة تقييم ذاتها وتوحيد توجهاتها وابداع وسائل وادوات جديدة في الكفاح السياسي والاجتماعي،تبقيها ضمن دائرة الحدث ومساهما في عملية التغيير.
فالى ذكرى الراحل الكبير…. ورفاقه الكبار.. الف وردة…