وصفه حلمي بكر بـ«طه حسين الموسيقى الشرقية»، ورحل أمس تاركاً مصر تعيش لحظة مفصلية أخرى في تاريخها. أنهى صاحب موسيقى «رأفت الهجان» مشواراً طويلاً خلّف خلاله ارثاً فنياً كبيراً ومحبين كثراً وحسرة على وطنه الذي يتجرّع كأس الأزمات
مات الموسيقار العربي عمّار الشريعي صاحب أشهر برنامج يتكلم في الموسيقى والألحان. برنامج «غوّاص في بحر النغم» (عام 1988) الذي كان يُبث من إذاعة «القاهرة» في منتصف ليل كل يوم أحد. لكن لن ينتبه أحد إلى هذا الفقد وسط هذا الدم الكثير الذي صار يغطي ساحات الثورات العربية، خصوصاً القاهرة الآن. ستمضي في جنازته قلّة. الجنازات كثيرة، وتخرج واحدة في كل دقيقة. ربما مات الشريعي بسبب هذا الموت الكثير الذي صار يحيط بأكبر المدن العربية.
لعلّ صاحب موسيقى مسلسل «رأفت الهجان» مات من القهر، وهو يرى كيف يسيل هذا الدم المصري الغالي في شوارع المدينة. لعلّه لم يستطع السماع إلى الشاشة، وهو البصير الذي يرى بأذنيه. لم يستطع الاستماع إلى ذلك الأنين الذي كان يصل حتماً إلى قلبه ولا يقدر هو على فعل شيء.
الموسيقار الذي درس التأليف الموسيقي بالمراسلة عبر «مدرسة هادلي سكول» الأميركية لتعليم المكفوفين، طلع على قناة «دريم الثانية» خلال «ثورة يناير» 2011 ضمن برنامج «العاشرة مساءً» مع المذيعة منى الشاذلي. تحدّث كثيراً خلال تلك الأيام التي تلت قطع خطوط الهاتف وشبكة الانترنت عن جمهورية مصر العربية. لم يكن وقتها مجرد موسيقي يودّ الحديث عن الموسيقى وأعماله الأخيرة، كان يود الحديث عما يجري على الأرض. في إحدى لحظات البرنامج، كانت منى الشاذلي في غاية الانصات إليه تتركه يذهب في حديثه عن البلاد التي صارت معتقلاً في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك الذي صار يتعامل مع أبناء شعبه كحظيرة يقطع عنها ما يشاء وقتما يشاء. لكنّ النقطة المفصلية في ذلك الحوار كانت عندما تحشرج صوت الموسيقار الغوّاص في بحر مصر، وانهمرت دموعه. للحظة واحدة، عرفنا كيف تبكي العيون التي لا
ترى.
عرفنا صاحب «أرابيسك» في اليمن عبر «تترات» المسلسلات التي كان يقوم بصنع موسيقاها الخاصة، وكانت تأتي إلينا من القاهرة ويجري عرضها عبر التلفزيون المحلي اليمني. كان هذا في الزمان القديم، أيام لم يكن لدينا وسائط متعددة وأقراص مدمجة يتم تداولها بيننا بكل سهولة. كنا نتسمّر أمام الشاشة أولاً لسماع تلك الموسيقى المدهشة التي كان يفعلها ذلك «الرائي»، وتالياً الاستمتاع بالمسلسل. وكان هذا يحدث دائماً.
لم يكن يحدث تقريباً سوى مع عمار الشريعي والموسيقار المصري أيضاً عمر خيرت. وفي فترات لاحقة ومع انتشار الفضائيات العربية، صرنا نسمع عن الموسيقار المصاحب للعمل الدرامي، وخصوصاً مع الدراما السورية من أمثال سمير كويفاتي، وهاني سبليني، والاردني طارق الناصر.
كل هؤلاء صنعوا لأنفسهم دراما موسيقية خاصة إلى جوار العمل الدرامي الذي يقومون بصنع هيكله الموسيقي، ويعمل على جذب روح المتلقي إليه. وبسبب هؤلاء، وفي مقدمتهم عمار الشريعي، تحول العمل الدرامي العربي إلى كيانين، واحد هو العمل الدرامي ذاته الذي يذهب بعد عرض العمل، في حين يبقي الثاني: العمل الموسيقي الذي كان مصاحباً له.
لكنه يبقى بعد العرض. الآن صرنا نسافر كثيراً. نأخذ من تلك البلاد التي نصلها أقراصاً مدمجة لكل هؤلاء وفي مقدمتهم صاحب «كتيبة الاعدام» و«حب في الزنزانة» للجميلة سعاد حسني، حين كانت في زنزانة وحبيبها عادل إمام في زنزانة أخرى، يفرق بينهما سور وحاجز مُكهرب… لكن موسيقى عمّار الشريعي كانت تجمع بينهما. يذهب الكلام في حين تبقى الموسيقى. لن نقول وداعاً يا… شريعي.
جمال جبران – الاخبار اللبنانية.