غزة – الحياة الجديدة – عماد عبد الرحمن- في الوقت الذي استقبل فيه العالمان العربي والإسلامي شهر رمضان المبارك هذا العام بشوق وبهجة معتادة تليق بهذا الشهر الفضيل الذي ينتظره المسلمون في شتى بقاع الأرض بشغف ويجدون فيه فرصة لأعمال الخير والعطاء وصلة الأرحام والتزاور والتجمع حول موائده العامرة بخيراته وتزدان معه شوارعهم وبيوتهم ومساجدهم بمظاهر هذا الشهر الفضيل، نجد المشهد في قطاع غزة على النقيض تماما بعد أن مزقته آلة الحرب الإسرائيلية وقطعت أوصاله وأوغلت فيه قتلا وتشريدا ونزوحا وهدما ودمارا وحصارا.. وما زالت.
الغزيون هذا العام أوجعهم استقبال الشهر الفضيل على غير العادة وبمجرد الإعلان عن قدومه طفحت ذاكرتهم بذكرياتهم مع رمضان والأجواء الجميلة التي كانوا يعيشونها، وتبدل حالهم من الشيء إلى ضده فاستذكروا مدنهم المهجرة وبيوتهم المدمرة وشوارعهم الخالية وفقد أحبتهم وضيق حالهم وحياة النزوح في الخيام والعراء، فعبست وجوههم وامتلأت عيونهم بالدموع وتمتمت شفاههم بعبارات الحسرة والألم.
ووسط هذا المشهد السوداوي القاتم وفي أقصى جنوب قطاع غزة بمدينة رفح المكتظة بأكثر من مليون ونصف المليون مواطن معظمهم نازحون نجد الحاج رائد عكيلة “أبو إحسان” أحد النازحين من مدينة غزة قام وثلة معه بجهد ذاتي وعمل تطوعي خالص بدأه منذ اليوم الأول لنزوحه للتخفيف من حدة هذا المشهد.
رحلة النزوح
الحاج رائد عكيلة (52 عاما) من سكان حي الرمال نزح من غزة مع بداية العدوان على القطاع هو وأفراد أسرته المكونة من 7 أفراد و37 آخرين أنسباء وأقارب بعد تعرضهم للقصف المباشر والعنيف والتدمير وتوجهوا للجنوب بمدينة خان يونس ومن ثم استقر بهم الحال في حل تل السلطان بمدينة رفح.
رحلة النزوح والتهجير والنجاة والخلاص من آلة القتل الإسرائيلية لم تشغل “أبو إحسان” عن عمله التطوعي الذي طالما أحبه واشتغل فيه على مدار سنوات طوال من حياته، والتمس في رحلته حاجة المواطنين الماسة للخبز والمخبوزات في هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشها النازحون خاصة والمواطنون في الجنوب عامة، فبدأ فكرته بعمل أفران من الطين وجمع الحطب وقام بتوزيعها مجانا على مخيمات النزوح في الجنوب والإشراف عليها وصيانتها بشكل دوري، وسرعان ما تطورت الفكرة التي لاقت استحسانا كبيرا من المواطنين إلى تأسيس مكان على قطعة أرض خالية بحي تل السلطان -كندا يضم عددا من أفران الطينة واستقبل 30 متطوعا ومتطوعة من النازحين للخبيز بالمجان لسكان المنطقة بل وإنتاج الخبز والمعجنات وتوزيعها بالمجان على مخيمات النازحين.
قضاء حاجة الناس
يقول الحاج رائد عكيلة لـ “الحياة الجديدة”: أكثر ما يسعدني قضاء حاجة الناس في ظل هذه الظروف العصيبة التي يعيشونها، خاصة وأنني أشاركهم تجربة النزوح وأستطيع أن أشعر بهم وأتفهم احتياجاتهم، فالغالبية العظمى من النازحين لا يجدون وغير قادرين على توفير قوت يومهم، فالظرف عصيب والأزمة كبيرة ومع دخول شهر رمضان وانعدام الموارد المادية والعينية تفاقمت الأزمة أكثر وأكثر، مؤكدا أنه من خلال هذا العمل التطوعي الذي يضم ما يقارب 30 متطوعا ومتطوعة كلهم أصحاب مآسي وتجارب نزوح مريرة استطاع أن يخفف عنهم آلامهم وأدخل بعض الفرحة عليهم من خلال مشاركتهم تجاربهم، ووفر لهم في ذات الوقت مصدر دخل مادي وعيني بسيط يساهم في تخفيف أزماتهم، بالإضافة لمساهمته في تخفيف معاناة النازحين بتوفير ربطة خبز أو وجبات سحور أو معجنات وحلويات تناسب شهر رمضان.
ووصف الحاج عكيلة شعوره بقدوم شهر رمضان بأنه منقوص ويختلف عن الأعوام السابقة، فبمجرد ثبوت الشهر والإعلان عنه شعر بغصة هو وأفراد عائلته لافتقادهم مدينتهم غزة بمساجدها وأسواقها وشوارعها وطقوسها وتجهيزاتها في هذه الأوقات، ولذلك قرر لمناسبة هذا الشهر انتاج معجنات تحاكي قطايف شهر رمضان محشوة بالتمر المطبوخ بالحليب والقرفة وتوزيعها بالمجان على النازحين والمواطنين في منطقته لعدم قدرتهم على توفير مستلزمات حلويات القطايف التي يشتهر بها الشهر الفضيل.
وتؤكد هنادي شهاب “أم رامي” 45 عاما نازحة من مدينة غزة إلى مدينة رفح وإحدى المتطوعات أن شهر رمضان هذا العام أوجعها بقدومه، لافتقادها أعزاء على قلبها حيث استشهد زوجها وابنها وزوج ابنتها، وتركت بيتها ومرت بتجربة نزوح مريرة واستقرت بمن تبقى من اسرتها المكونة من 5 أفراد في مكان لا يصلح للعيش الآدمي لمجرد أنه يبعدها مؤقتا عن خطر الموت، بجانب الوضع الاقتصادي الصعب وشح البضائع والمتوفر منها أسعاره عشرات أضعاف السعر الطبيعي.
وأوضحت أم رامي أن قرارها بالالتحاق والتطوع في هذا العمل نابع من إحساسها بالآخرين وممن يشاركونها نفس الواقع والمعاناة وأنه من خلال مشاركتها وصديقاتها في النزوح بالعمل التطوعي تخفف من حدة الشعور بألم الفقد الذي تعانيه، وتحاول من خلال عملها هذا مساعدة أقرانها والتخفيف عنهم واستعادة ثقتها بنفسها والاستقواء ببعضهن البعض.
من جانبها أكدت أم محمد (42 عاما) من سكان بيت لاهيا شمال قطاع غزة والتي اضطرت الى النزوح لمدينة رفح منذ أيام قليلة بنصف أفراد أسرتها المكونة من 8 أفراد بسبب الجوع الذي لم تستطع أن تصمد أمامه مثلما صمدت أمام القصف والتدمير والجحيم الذي تعرضت له في الشمال بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، أنها بمجرد وصولها ومعرفتها بفكرة المشروع تطوعت فورا لعلها تجد ما يسد جوع أطفالها ويخفف عنهم وطأة حالة الذل والتشرد الذي تعرضوا له خلال هذا العدوان الغاشم.
بأي حال جئت يا رمضان
وتقول آيات وادي (42 عاما) من سكان الشمال أنها ليست أحسن حالا من أقرانها المتطوعات بل هي شريكة أصيلة معهم في البؤس والمعاناة التي عايشنها حيث اضطرت للنزوح هي وأفراد اسرتها المكونة من 8 أفراد بعد أن قصفت بيوتهم ودمرتها طائرات الاحتلال ونجوا من الموت بأعجوبة واضطرارها للعبور من خلال حواجز الاحتلال الإسرائيلي على شارع صلاح الدين باتجاه الجنوب واحتجاز جيش الاحتلال ابنتها منى (17 عاما) لمدة 9 ساعات متواصلة كادت فيها أن تفقد عقلها خوفا على طفلتها إلى أن استقرت في حي تل السلطان بمدينة رفح في وضع أقل ما يقال عنه انه غير إنساني وغير صحي.
وبالرغم من معاناة أم النور إلا أنها أيضا قررت التطوع والعمل لمساعدة الأخرين رغبة منها في الخروج من حياة البؤس التي تعيشها في مكان نزوحها فهي وأقرانها لسان حالهم يقول: “يا ليتنا نظل في مكان عملنا طيلة اليوم” لأن العمل ينسينا همومنا ومشاركتنا قصصنا وتجاربنا تخفف عنها الكثير، فالهموم إذا تشاركت خفت على حد قولها.
وعن شهر رمضان واستقبالها له تقول أم النور: “بأي حال جئت يا رمضان” تقولها بحسرة وألم لا تستطيع ملامح وجهها اخفاء حزنها ولم تقو عيونها على حبس دموعها فقط لسانها يردد “بأي حال جئت يا رمضان” كان رمضان عندنا غير تجهيزاته، إنارته، صلاة التراويح، ما ضل مساجد وين رمضان إخواتنا بعاد من حولنا استشهدوا.. رمضان الذي نعرفه صلة، وقرابة وتجمع وحب ما ضل، للأسف ما في روح لرمضان هذا العام.