عندما حضرت الفيلسوفة حنا آرندت محاكمة أدولف آيخمان في القدس، أصابتها الصدمة من طبيعته “غير المفكرة” في الطريقة التي تحدث بها عن العمل العادي المتمثل في تنفيذ الهولوكوست. لم يكن يتبع الأوامر وحسب، وإنما كان يتبع الإجراءات والطرق الطبيعية في العمل منظمة معقدة، لكنها مميتة. وقادت حقيقة أن الناس الاعتياديين يستطيعون تنفيذ أعمال شريرة الأستاذة آرندت إلى اقتراح أن “تفاهة الشر” هو مشكلة حاسمة كان يجب الاعتراف بها كحالة حديثة. وقد وفرت الحرب الإسرائيلية على غزة مرئيات لافتة لقصف المنازل والحوانيت والمستشفيات والمدارس التي كانت العديد منها تشكل “ملاذات آمنة” تابعة للأمم المتحدة، مما أفضى إلى قتل وجرح الآلاف من الفلسطينيين. وردت إسرائيل على تساقط صواريخ حماس بقصف وغزو غزة، ومهاجمة مناطق العيش الحضرية؛ حيث زعم أن مقاتلي حماس يعملون في شبكة من الأنفاق. ويقف إجمالي عدد الوفيات الفلسطينية في غزة عند أكثر من 2000 شخص وأكثر من 10000 جريح.
أسفر القصف عن قتل أكثر من 300 طفل. وكان من ضمن ضحايا المجزرة 26 فرداً من عائلة أبو جامع الذين قتلوا في ضربة واحدة. وفي الجانب الإسرائيلي قتل أربعة جنود وثلاثة مدنيين. وعندما نفى مراقبو الأمم المتحدة وجود أي أسلحة في ملاجئهم المهشمة، جاءت إجابة إسرائيل بأنها ستجري تحقيقاً في القصف. وقالت إن الإسرائيليين انطووا على نوايا جيدة بعد كل شيء: فقد اتصلوا بالمنازل المستهدفة قبل دقائق من تفجيرها. وإذا قتل مدنيون، فلأن حماس كانت تعمل بسوء نية مستخدمة هذه الأمكنة الحضرية لشن عملياتها، ومستخدمة بشكل أساسي المدنيين كدروع، كما قيل. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد قال خلال مقابلة مع شبكة فوكس نيوز يوم 21 تموز (يوليو) الماضي: “هذه أبشع حرب شهدتها على الإطلاق.. تريد حماس تكويم أكبر قدر ممكن من القتلى المدنيين”. كان الخطأ خطأ حماس لأنها لم تكن لدى إسرائيل أي نية لقتل مدنيين. وكان مقتل الراشدين والأطفال نتيجة لعملية حربية اعتيادية، وجزءاً من طريقة طبيعية للتفكير بشأن الاستراتيجية.
وقد حدث هذا من قبل. فقد قتل جراء الحرب التي امتدت 22 يوماً، والتي بدأت في 27 كانون الأول (ديسمبر) 2008 وانتهت في 18 كانون الثاني (يناير) 2009، أكثر من 1400 فلسطيني و13 إسرائيلياً. وكان الرد الرسمي الإسرائيلي أن حماس هي المسؤولة عن أي خسائر مدنية، لأن مقاتليها يعيشون ويتدربون ويخزنون الصواريخ ويطلقونها بالقرب من الأمكنة التي يعيش فيها الناس. وشرحت ناطقة بلسان حكومة إسرائيل: “لا توجد لدينا أي نوايا لإلحاق الأذى بالمدنيين… إن حماس تستخدم المدنيين من خلال العمل بينهم”. وأضافت: “في بعض الأحيان تكون هناك أوضاع يصاب فيها المدنيون”. وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية (السابقة) تسيبي ليفني قد وعدت مسؤولين من جمهورية التشيك والسويد وفرنسا الذين كانوا يسعون للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، بأن تعمل إسرائيل على “تغيير المعادلة” في المنطقة، مضيفة أنه في صراعات أخرى: “…نحن لا نطلب من العالم المشاركة في المعركة وإرسال قوات -إننا نطلب منهم السماح لنا بتنفيذها حتى نصل إلى نقطة نقرر معها أن أهدافنا قد تحققت عند هذه النقطة”.
قبل أيام قليلة من ذلك، كان الرئيس جورج دبليو بوش قد قال إن حماس هي التي تتحمل المسؤولية لأنها “أطلقت صلية من الصواريخ وقذائف المورتر، واستهدفت عن عمد مدنيين إسرائيليين -وهو عمل إرهابي يعارضه القائد الشرعي للشعب الفلسطيني، الرئيس (محمود) عباس”. وأصرت إسرائيل على أنها حاولت إجراء مكالمات هاتفية مع البيوت المستهدفة (كما فعلت في هجمات العام 2014)، وإسقاط منشورات تحذر السكان من نسف بيوتهم في الحال، ولذلك يجب عليهم مغادرتها، لكن الأولاد يموتون جراء تخطيط عسكري روتيني ضد الإرهاب. وهذا مبرر في رواية الإرهاب التي تقول إنه نظراً إلى كون الإرهاب (وليس الإرهابيين) لا يتبع قوانين حضارية للحرب ويستهدف المدنيين، فإن القتال ضده يصبح أيضاً خارج الحدود المقبولة، مثل التعذيب والاختطاف والقتل واسع النطاق للمدنيين أثناء ملاحقة الإرهابيين. لم تكن هناك نية لإلحاق الأذى بالآخرين، وإنما بالإرهابيين أنفسهم، لكنه إذا دخل آخرون على الخط، حسناً، فإن ذلك يكون سيئاً جداً. وفي الحقيقة، ساعدت الولايات المتحدة نفسها في تطبيع قتل المدنيين منذ هجمات 11/9. ووعد الرئيس أوباما بإعادة النظر في برنامج الطائرات من دون طيار، لكنه ضاعف ضرباتها بدلاً من تلك الهجمات التي كان قد أمر بتنفيذها الرئيس السابق جورج دبليو بوش. وقال الرئيس في سياسته حول سياسة الطائرات من دون طيار يوم (22 أيار/ مايو 2013): “إن قتل المدنيين والأولاد ليس هو القصد، لكنها مآس تكسر القلب”.
الفكرة الأساسية وراء ذلك هي أنك تفعل ما هو ضروري ضد هذا التهديد المرعب. وإذا وقعت وفيات في المدنيين، فليكن. ويصبح تعقب أهداف قد تشتمل على مدنيين وأولاد إجراء معيارياً مقبولاً. إنه ليس فعلاً شخصياً أو سياسياً. إنه شيء مبتذل. وربما يطالب المواطنون والقادة الشجعان بوضع حد لهذه الرواية.
الغد الاردنية