تتعدّد المضامين التي تناقشها الرواية فتعرض مرّة لتاريخ ليبيا وما لحقها من ظلم وأطماع كثير من الأمم في خيراتها، وقد تعرّضت لاحتلالات مختلفة قطّعتها ونهبتها وسيطرت عليها، ورغم كونها مجتمعًا أقربَ إلى البداوة إلّا أنّ مدنها كانت تعجّ بالحياة والصّخَب، فامتلكت مميّزاتِ الممالك الممتلئة من حيث المواصفاتُ والشروطُ العمرانيّةُ والاقتصاديّة والثقافيّة، وهذا ما أكّده وليم شكسبير في مسرحيّة تاجر البندقيّة في قوله: ” إنّ السفن التجاريّة كانت تأتي محمّلة بالبضائع والأطايب من طرابلس، وكان الساحل الليبيّ مهدًا للفينيقيّين قبل الميلاد، ومطمعا للإغريق والرومان بما تشكّله من أهمّيّة جغرافيّة وما توفّر فيها من خيرات وثروات”
الغرائبي والواقعي
يتّخذ الكاتب لروايته شعريّة خاصّة تقوم على جدليّة ثنائيّة هي الجمع بين العنصر الغرائبيّ المتخيّل والعنصر الواقعيّ المعيش، وتنسحب هذه الشعريّة على أركان عديدة في الرواية كالشخصيّات، الأحداث، الرواة، البداية والنهاية، ونحو ذلك، وكأنّه يعمد إلى معالجة الواقع بآليّات غرائبيّة متخيّلة. يلتقي القارئ ابتداءً من الكلمة الأولى بمليكة التي تقوم بأداء دورين بارزين؛ فهي الشخصيّة المركزيّة في الرواية، وهي كذلك الراوية الأساسيّة لأحداثها بالتناوب مع السفير الفلسطينيّ الذي يشاركها مهمّة السرد والتعليق على الأحداث أحيانًا أخرى. تتألّف الرواية من ستّة فصول متفاوتة الطول
ما قبل القراءة
قبل الشّروع في معالجةِ شعريّة ومقوِّمات رواية “نساء أويا” للشاعر والكاتب الفلسطينيّ المتوكّل طه، يستوقفنا اسم “أويا” المثبت في اسم الرواية، على سبيل التوضيح، فهو اسمٌ لواحدة من المدن الثلاث التي تشكّل مدينة طرابلس ليبيا المسمّاة باليونانيّة “تريبوليس”، أي المدن الثلاث وهي؛ أويا، صبراتة، ولبتس (لبدة)، وهي أبرز الأماكن التي نجد لها حضورًا في تضاعيف الرواية.
اعتمادًا على نظريّة الاستقبال للمفكّر الألمانيّ هانز روبرت ياوس “Hans Robert Jauss” يمكن القول، بعد قراءة عنوان الرواية وقبل سبر أغوارها، أنّ النساء هنّ قطب الرحى في هذه الرواية؛ لذا جعل اسمَها نساء أويا. يدعم تصوّرَنا هذا، الشكلُ الذي اتّخذه الكاتب لروايته، إذ جعلها في ستّة فصول، بلغ عددُ صفحاتها مائتين وأربعًا وعشرين صفحة، وكان الفصلُ الرابعُ أطولَها، ويقع في نحو مائةٍ وسبعَ عشْرةَ صفحةً، وفيه يستعرض الكاتب قصصَ خمسٍ وعشرين امرأةً يُبيّن فيها ما حاق بالمرأة من ظلم، استلاب، واغتصاب، لتنتهي حياة معظمهنّ بالقتل، وبذلك تستحوذ النساء على مساحة واسعة من الرواية تصل إلى أكثر من نصف صفحاتها، إضافة لحضورها البارز في الفصول الأخرى، وفي هذا ما يوحي بمركزيّة المرأة فيها، ويؤكّد من ناحية أخرى ما ذهب إليه جيرار جينيت “Gerard Genette” بأنّ وظيفة العنوان تكمن في تعيين هُويّة النّصّ، تصميم المضمون، الإشارة للحدث المركزيّ، أو تصويب الهدف نحو إغواء وجذب القارئ للنّصّ.
مختارات من مضمون الرواية
تتعدّد المضامين التي تناقشها الرواية فتعرض مرّة لتاريخ ليبيا وما لحقها من ظلم وأطماع كثير من الأمم في خيراتها، وقد تعرّضت لاحتلالات مختلفة قطّعتها ونهبتها وسيطرت عليها، ورغم كونها مجتمعًا أقربَ إلى البداوة إلّا أنّ مدنها كانت تعجّ بالحياة والصّخَب، فامتلكت مميّزاتِ الممالك الممتلئة من حيث المواصفاتُ والشروطُ العمرانيّةُ والاقتصاديّة والثقافيّة، وهذا ما أكّده وليم شكسبير في مسرحيّة تاجر البندقيّة في قوله: ” إنّ السفن التجاريّة كانت تأتي محمّلة بالبضائع والأطايب من طرابلس، وكان الساحل الليبيّ مهدًا للفينيقيّين قبل الميلاد، ومطمعا للإغريق والرومان بما تشكّله من أهمّيّة جغرافيّة وما توفّر فيها من خيرات وثروات(الرواية، ص23 – 24). يعود الراوي بالقارئ إلى الماضي السحيق مستحضرًا أحداثًا تاريخيّةً عربيّةً وغربيّةً لتدعمَ فكرةً معيّنةً تارة، أو لتقدّمَ عبرةً للقارئ تارة أخرى، ومن ذلك؛ تاريخ الثورة الفرنسيّة، حكاية عذراء أورليان، أي جان دارك، شهيدات مقصلة القاضي فوكييه تانفيل مثل الراهبتين كونستانس وبلانش، الهجوم على قصر فرساي وإعدام الملكة فيكتوريا وزوجها بنفس المقصلة، ونحو ذلك. ثمّ يتحوّل إلى التاريخ العربيّ فيُذَكِّرُ بغزوة الأحزاب زمن الرسول، طرد العرب من إسبانيا، احتلال أويا على يد الوندال، حرب ليبيا مع تشاد، الاستعمار الإيطالي لليبيا، العدوان الثلاثي على مصر ، وغير ذلك ممّا يؤكّد سعةَ ثقافةِ الكاتب، ويجعل الرواية، في بعض مضامينها، سجلًّا يحفظ التاريخ.
يتآزر التاريخ والسياسة حتى يكاد الإنسان لا يفرّق بينهما، وتعمل الرواية على تفصيل ما لحق بليبيا وأهلِها من غبن زمن الطاغية (القذّافي)، فقد كانت مدينةُ طرابلس، برأي العرّافة مليكة “آية في التنوّع الحضاريّ الذي غيّبه القذّافي، الطابع الرومانيّ والقوطيّ والأندلسيّ والشاميّ الذي يغلب على معظم الأبنية التاريخيّة العتيقة، هذا التنوّع المدهش المثير تعبّر عنه العديد من القصور الفخمة والبيوت الأُبّهة”(الرواية، ص57). مارس نظام القّذّافي أعتى نظريّات التجهيل والتغريب والاستلاب والقمع وفرض إستراتيجيّاتِ تُمثِّلُ فهمًا شِفونيًّا لقوميّة عدميّة، وتبديد الثروات، وشرعنة النزوات والتجريب المريض”( 24)، فلم يعدْ من همٍّ يشغل بال الناس في ليبيا سوى الثورة، ويتمثّل هذا الأمر في اهتمامات كلٍّ من مليكة والسّفير الذي يصرّح قائلًا: “إنّ الثورة والناس وليبيا أصبحوا همّنا اليوميّ، وأملنا الذي نرجو”(58). إنّ ما ساد من أعمال العنف، الفساد والقتل جعل مليكة تتوقّع انهزامَ القذّافي إذ تقول: “إنّ دماء النمر ستمطر بعد قليل، والجامع الذي ستقيمه السيّدة عند التقاطع الضّوئيّ سيكون بداية النهاية، وإذا اكتمل بناء الفناء الخاشع فسيكون شهر فبراير القارس ساخنا عنيفا، يقلب القِدْرَ بما فيه، وسينسرب اللون إلى الشقوق، وتعود ألوانٌ غابت […] لكنّ الغرور، بعد كلّ هذه السنوات المرعبة، سيوصل الخطاب إلى العدم. إنّي أسمع الصّوفيّ الروميّ يقول: إنّ الأرض جائعة وسرعان ما تحصل على لقمة دسمة ثمّ تهدأ)”(41)، وفي هذا تأكيد للمصير الذي سيؤول إليه القذّافي ونظامُه، يدعم ذلك تنبّؤُ العرّافة مليكة التي تقول : “ولعلّي أرى أنّ ثورة 17 فبراير هي العتبة الأولى التي تنفتح أمام ليبيا لتعبرَ إلى المستقبل وتكتب تاريخها الحقيقيّ بيدها لأوّل مرّة” (24).
تتعزّز الثيمةُ السياسيّةُ في انتقاد السفير للحالة الفلسطينيّة التي تقوم على التضليل في المفاهيم والرموز، فيشير إلى استخدام الفلسطينيّ لمصطلحات كثيرة مفرغة من مضمونها مثل سلطة وطنيّة، سلطة تشريعيّة، سلطة تنفيذيّة بينما تخضع كلّ هذه السلطات لإرادة الاحتلال، وعدم تحقيق الإرادة الفلسطينيّة على أرض الواقع، فكيف يتحقّق مفهومُ الأمن القوميّ أو الوطنيّ وهُم لا يملكون السيطرة على أمن بلادهم من حدودٍ ومعابرَ، وأجواءٍ ونحو ذلك؟ إنّ هذه الظروف التي يعيشها الفلسطينيّ خلقت حالةً من الالتباس السياسيّ جعلت السفير يتساءل: “أليست صورة “وضعنا” في فلسطين المجزّأة المنهوبة المذبوحة من الوريد إلى الوريد بعضَ ما في “صورة” ليبيا اليوم، أو العراق، أو سوريا، أو غيرها؟”(218).
لعلّ أهمّ قضيّة تعالجها الرواية هي قضيّة المرأة وما تعرّضت له من استغلال، انتهاك، سلب، اغتصاب، وقتل في مجتمع ذكوريّ ظالم سواء كانت تمثّلُه السلطة الحاكمة، أو العائلة، أو أيّ رجل بصورة عامّة، ويتألّق المتوكّل طه في إسناد مهمّة السّرد الأساسيّة على عاتق امرأة خياليّة تتمتّع بقدرة كبيرة في الاطّلاع على الماضي واستشراف المستقبل من خلال قراءة ما كتب على الرمل، ومن ثمّ استحضار المرأة لتسرد حكايتها وما مرّ بها من معاناة في علاقتها مع الرجل. فكيف يتمُّ لها الأمر؟ تقوم العرّافة مليكة في كلّ مرّة بالقبض على حفنة تراب من قبر امرأة، تذروها في الهواء، فتقرأ ما حدث مع صاحبتها، بعد أن تتقمّص شخصيّتها. بهذه الطريقة استطاعت سرد حكايات خمسٍ وعشرين امرأة، وفي هذا ما يدلّ على استحواذ قصص هؤلاء النساء على فضاء الرواية، ويبيّن مركزيّة المرأة فيها، إضافة لتأكيد الظلم الواقع عليها في المجتمع الذكوريّ، ويبدو أنّ الكاتب جعل العرافة امرأة، والراوية امرأة هي صاحبة القصّة؛ لأنّها أصدق في التعبير عمّا لحق بها ولأنّ العرافة ترفض استحضار أو استنطاق رجل حسبما تصرّح بعد أن نثرت تراب حفنة، فنفضت يدها وقالت: “هذا جسد رجل، ولا أحبُّ أن أستنطق الرجال!”(96).
نماذج عن قصص نساء أويا قصّة عائشة وهي “فتاة ليبيا وشاعرتها، خرجت مع الثائرين في التظاهرات المنادية برحيل الطاغية(القذّافي) وتحرير البلاد، فحصدتهم بنادق القنّاصة واعتقل الباقي، فزجّوا بعائشة في المعسكر ليهتكوا عِرضَها ويُذيقوها من صنوف العذاب والحرق والخلع والتكسير ما أودى بحياتها”(80). بذلك تظهر المرأة مشاركة فعّالة في مقاومة النظام الرسميّ الظالم.
تتعرّض المرأة بحكم الأعراف والمحافظة على الشرف لانتهاكات كثيرة مثل عمليّات التصفيح، أو الغلق، أو التحديد كالذي جرى مع تينيرت، أي ملاك، إذ تأخذها أمّها إلى شيخة لتصفّحها وتمنعَها من الانحراف وهي في السابعة من عمرها، مسخّرةً الجانَ ليحميَها ويصونَ عرضها، فيستحيل اقتحامُها وفضُّ بكارتها عندما تزوّجت من ابن خالتها؛ لأنّ خيط النيرة، أي مفتاح الحلّ عند الزواج قد ضاع بموت الشيخة وأمّها، يأخذها زوجها إلى شيخة أخرى فلا تفلح بحلّها؛ لأنّ الجنّ الذي يحرسها وقع في حبّها ولا يقدر على فراقها، وإن حاول زوجها اختراقها فسوف يؤذيه، يزداد ضغط زوجها عليها، كما ترغب هي في التواصل مع زوجها فتعمد إلى قضيب حديد تدسّه بين فخذيها ليفيض دمها غزيرا، ثمّ تفارق الحياة(150 – 154). هكذا يسخّر الكاتب أحدثًا غرائبيّة ليؤكّدَ ثيمة واقعيّة هي النيل من المرأة وحرمانها من متعة معاشرة زوجها، ونجد حضورًا لهذه الغرائبيّة في مواضع عديدة من الرواية.
من قصص النساء الأخرى المثيرة قصّة مملوكة، ابنة لولوة وزوجة ضاحي الذي يسجنه الباشا فتعمد هي إلى تحريره من الأسر لكنّ الباشا وأعوانه يفلحون في قتل ضاحي، ويزوّجها إخوتُها من رجل آخرَ ، وفي أثناء رحيلهما تقع عن ظهر بغلتها وتموت، وقد تراءى لها وجه ضاحي وضحكته البريئة(121 – 124). أمّا مالكة الجرمانتيّة الطارقيّة فتؤخذ سبيّة، ويعزّ عليها الأمر فتعمد إلى وضع حدّ لحياتها بعشبة سامّة(115 – 118). تصوّر بعض حكايات النساء وحشيّة الرجل في ممارسة الجنس مع المرأة ومنها قصّة برنيّة التي ماتت ليلة الدخلة نتيجة وحشيّة زوجها، وكذلك قصّة راعية الضأن والجِمال التي يغتصبها وحش في صورة رجل، تثور الراوية مليكة لهذه الممارسات فتقول للسفير ، شريكها في سرد الأحداث: “المرأة أكثر من جسد، يا أستاذ! أمّا الرجال فليسوا سوى رجال”(201). هذه النظرة الذكوريّة التي تعتبر المرأة مجرّد جسد تزعج مليكة التي تقول محتجّة: “يريدون لجسدي أن يكون حانةً مفتوحةً، وأريد له أن يكون معبدًا يعجُّ بالدخان الطيِّب والراكعين، لأواصل بناء بيتي من خشب الأحلام على مدرج الحليب والعسل” (18).
تصوّر بعض القصص ظاهرة الجنس الشاذّ بين النساء (السحاق) كقصّة ماليتشا زوجة الزعيم شاقي، تحاول أوجا استغلالها جنسيّا فلا تمكّنها من نفسها كما تفعل مع كلّ امرأة تعدّها للزواج من شاقي بعد أن يقتل شاقي زوجها، تغضب ماليتشا لقتل أخيها وزواج امرأته من شاقي، ويغضب هو منها لأنّها نظرت في عينيه خلافا لما هو معهود، إذ لا يجوز التقاءُ عينيّ المرأة بعينيّ زوجها لأنّ الأمر يُحبط الر جل، فيشيحُ شاقي عنها، ويُقبلُ على خوخا، زوجة أخيها وعندما ينتهي، يتحوّل إلى ماليتشا حتّى يغيّبها بمعابثته، ثمّ يتركها تتأجّج بنار شهوتها دون أن ينهي ممارسته معها، تثور عليه وعلى زوجة أخيها، تحاول قتلهما، لكنّ أوجا المدلّكة تقف لها بالمرصاد، وتقتلها(103 – 113).
تعبّر المرأة عن حاجتها الطبيعيّة للرجل وتشتهيه كما يشتهي الرجل الأنثى وهذا ما تصرّح به والدة بلقاسم صاحبة الحفنة الثانيةَ عشْرةَ، فبعد أن طلّقها زوجها بقيت وحيدة في بيتها تتشوّق لرائحة رجل، فتقول: “ولطالما حرّقني الحامض الذي يعبّئ صدري، والشهوة نار تشعط قلبي وترضُّه بسجِّيلها. أبحث عن الرجل والتشقّقات تتّسع لتصبحَ قبرًا وسيعًا يبتلعني”(149). إنّ هذه النماذج المعروضة للمرأة الليبيّة وغيرها ممّا ورد في تضاعيف الرواية تعزّز ما ذهبنا إليه من ظلم المرأة وانتهاكها على مرّ العصور سواء كان عن طريق خطفها، تعذيبها، وقتلها، أو معاناتها من النظرة الذكوريّة المحبطة التي لا ترى فيها سوى جسد لمتعة الرجل ومصنعٍ لإنتاج الأولاد، إضافة لاستباحتها في الغزوات والحروبات، ناهيك ما يلحق بها من تشويه جسديّ ونفسيّ نتيجة ما تتعرّض له من أعمال التصفيح أو تعقيم زوجها لتُحرمَ من متعتها الجنسيّة، وعليه يمكن القول إنّ رواية نساء أويا تشكّل صرخة مدوّية في وجه المنظومة الذّكوريّة التي تثور عليها بعد أن أدركت المرأة أنّ تغيير وضعها لن يتمّ لها إلّا بأخذ زمام المبادرة والسعي لنيل حقوقها تامّةً، كحقّها في اختيار شريكها، مشاركتها في مقاومة النظام الفاسد، حقّها في تسلّم منصب سياسيّ، وغير ذلك.
تنفتح الرواية على خطابات عديدة أخرى فتعرض مثلًا لمبادئ يهود ناطوري كارتا وموقفهم من الصهيونيّة (161 – 162)، أو طرح نقاش فلسفيّ طويل، على لسان مليكة العرّافة، عن الإنسان وقواه، وحواسِّه غيرِ المعلومة كحاسّة الإنذار وحاسّة التوارد والتخاطر، وحاسّة التقارب، وحاسّة اندماج الذّات بالشّيء والمكان، وكذلك تطرّقها لمفهوم النفس والقلب وهل القلب موطن النفس أم العقل موطنها؟ وماذا يعرف الإنسان عن الدماغ ومكوّناته، لتصل في نهاية هذا النقاش إلى حقيقة تقول فيها للسفير: “يا سعادة السفير، الإنسان هو المجهول الأكبر في الحياة […] وأبلغ تعبير عن جهلكم بطاقات الإنسان الخفيّة وأبعاد الحياة الأخرى هو صورة الواقع الذي تراه لإنسان العصر الذي تقوده نزعاته المادّيّة إلى الانقياد لقوانين الواقع المادّيّ التي تقوم على التنافس والصراع والاحتراب، هل ترى أحوال ليبيا ومثيلاتها، حيث يسقط الناس في أتون التعامل مع بُعدٍ واحدٍ للحياة. إنّ العلم ليس دائما هو الحلّ يا أستاذ”(95).
على هامش فنّيّة الرواية
يتّخذ الكاتب لروايته شعريّة خاصّة تقوم على جدليّة ثنائيّة هي الجمع بين العنصر الغرائبيّ المتخيّل والعنصر الواقعيّ المعيش، وتنسحب هذه الشعريّة على أركان عديدة في الرواية كالشخصيّات، الأحداث، الرواة، البداية والنهاية، ونحو ذلك، وكأنّه يعمد إلى معالجة الواقع بآليّات غرائبيّة متخيّلة.
يلتقي القارئ ابتداءً من الكلمة الأولى بمليكة التي تقوم بأداء دورين بارزين؛ فهي الشخصيّة المركزيّة في الرواية، وهي كذلك الراوية الأساسيّة لأحداثها بالتناوب مع السفير الفلسطينيّ الذي يشاركها مهمّة السرد والتعليق على الأحداث أحيانًا أخرى. تتألّف الرواية من ستّة فصول متفاوتة الطول، تسرد مليكة أحداثَ ثلاثةٍ منها تُشكّل أكثر من نصف الرواية، وتشارك السّفير برواية الفصول الثلاثة الأخرى لتستحوذَ تقريبا على عمليّة السرد.
تَفتتح مليكة عمليّة السرد مُعرّفةً بنفسها وموظّفة الضمير الأوّل بلغة سماوية هي آية في السرد الروائيّ فتقول: “أنا مليكة. امرأة التراب. أتهجّى الهيولي، فتنفرط الأبجديّاتُ على لساني[…] لا تقدّمْني امرأةً من لحمٍ ودم، فأنا روحٌ تتّسعُ وتنبضُ، تَدْفُق سابحةً، وتتكوّر ضوءًا في عتمات ثلاث، وتخرج شجرةً من شغفٍ وأحلام، وتمضي لتعودَ إلى رحمٍ ورديّ آخرَ، لأكونَ شاهدةً على ما كان، بمشيئةٍ كونيّة، هي بيد الأعلى الذي يقبض الخير ويبسطه”(9). يُبيّن هذا التصريحُ أنّ مليكةَ ليست من لحم ودم، بل هي روحٌ تنتقل من جسد لآخرَ فتتقمّصُ الشخصيّةَ لتسرد قصّتها، وتعرف ما جرى لها، لا بفضل قواها إنّما بمشيئة الله تعالى الذي يقبض ويبسط. تعترف مليكة بمصدر قدرتها في اطّلاعها على حيوات النساء قائلة: “لا أعلمُ الغيبَ، أو ما سيكون، غير أنّ ثمّةَ من استرقَ السمْعَ يأتيني، وينفثُ في أذني، وأعرفُ ما جرى، لأنّني عشتُه وشهدتُه، ووقع بين يدَيَّ وأمامَ ناظريَّ”(11). تشرح مليكة للسفير سبب تسميتها باسمها قائلةً: “وليس مصادفة أنّ اسمي مليكةُ، لأنّني من مليكات وهبهنّ الله ملَكةَ فكِّ بعضِ أسرارِ الحياة في أبعادها الأخرى التي غفِلتَ عنها أنت وغيرُكَ، بعد أن أمعنتم بالعادي والمادّي، ولم تفطِنوا لأسرار البديعِ في خلقه” (95). تواصلُ مليكةُ البوحَ بتفاصيل حياتها شيئًا فشيئًا حتّى تتشكّلَ هويّتها مع نهاية الرواية، ممّا يجعل القارئ مشدودًا إلى الرواية لا يستطيعُ منها فكاكًا حتّى نهايتِها.
يتعرّفُ السفير إلى مليكة بعد أن يستأجر بيتًا سرّيًّا حمايةً له من أعمال العنف المنتشرة في ليبيا، فيجدُها تسكن في ملحق البيت بموافقة صاحبه، يرضى بإقامتها ويستأنس بها، بعد أن تطمئنَه على حياته، فهو في حماية حرّاسها الذين لا يَرى أحدًا منهم، فيرافقها في زياراتها إلى المقابر لتجمعَ حفنات النسوة وتقصَّ حكاياتِهنّ عليه، لكّنها تشترط عليه أن لا يسألَها عن شيء كصنيع الخضر مع النبيّ موسى في سورة الكهف، وأن يتسلّحَ بالصبر على ما يرى ولا يفهم حيثيّاته(33). ثمّ تسرد عليه قصّةَ حياتها، وقدرتَها على معرفة الغيب، لكنّه يشكّ في قدرتها على قراءة التراب، ويتصوّرها جاسوسةً تلاحقه وتتابع تحرّكاتِه في مهمّته سفيرًا لبلاده بعد مقالة “حائط البراق” التي نشرها فأحدثت جلبةً محلّيّةً وعالميّةً، وجعلت اليهودَ يعتبرونه رابعَ أسوأ شخصيّةٍ في العالم ممّن يُسمّونهم المعادين للساميّة، ثمّ يأخذُ بتغيير رأيه في مليكة التي تعرف تفاصيل حياته وأهله واهتماماته، تسأله مليكة: “ألسْتَ السيّدَ نزّال! وأمّكَ، رحمها الله، الحاجّة العفيفة اليافويّة!” (29). بعد أن يتعرّف السفير على مليكة ويتأكّد من قدراتها في قراءة الرمل، يقول عنها: ” أكاد أقول إنّ مليكة هي كلّ تلك النساءِ اللواتي انتقلت روح أقدمِهنّ لتحلّ في التي وُلِدَت بعدها. وإلّا فكيف عرفَتْ تفاصيلَ حياةِ كلّ واحدة، وأحسّت بإحساسها، وحازت على ذاكرتها،[…] إنّ نساءَ مليكةَ هُنّ مليكةُ نفسُها التي انبعثت تباعًا لتكونَ الشاهدةَ الشهيدةَ ولتسجّلَ بحواسِّها ما لفحها من نار أو هبوب قارس”(190). وفي هذا إشارةٌ لفكرة التقمّص المنتشرة في ديانات ومعتقدات عديدة، وتعليلٌ لقدرات مليكةَ التي لم يعد يشكُّ فيها مع نهاية الرواية إذ يقول: “اليوم، وأنا أذكر مليكةَ، لم أعد في شكٍّ ولا حيرةٍ من أمرها، بتُّ أعرفُها مثلما أعرف نفسي، بل لعلّني لو لم أعرفْ مليكةَ ما عرفت نفسي قطّ”(222).
يشارك السفير مليكةَ في سرد ما يتعلّق به من أحداث الرواية في الفصل الأوّل، الخامس، والسّادس مُلتفتًا في بعض المواضع لسرد أحداثٍ جرت مع مليكةَ أو للتعليق على حالة الفوضى التي عمّت ليبيا بعد الثورة، ومن خلال ذلك ندرك مدى التماهي والتطابق بين شخصيّة السفير والكاتب، إذ تتطابق تفاصيلُ حياتهما تماما ممّا يوحي أنّ السفير هو الكاتب، فكلاهما ولد في بلدة قلقيلية، وعاش في رام الله، وقاوم الاحتلال الإسرائيليّ وزُجّ في غياهب السجون الإسرائيليّة، وكلّ منهما صاحب قلم يكتب الشعر والقصّة ويرى في نفسه شاعرًا وكاتبًا أكثرَ من كونه سياسيًّا، وكلاهما عمل سفيرًا لبلاده فلسطين في ليبيا وشهد ما مرّت به ليبيا من أحداث داميّة إبّان الثورة وبعدها، ممّا يدفعنا للاعتقاد أنّ شخصيّة السفير حقيقيّة. يواصل السفير حضورَه في تضاعيف النصّ حتّى نهايته، وقُبيل عودته من إجازته إلى ليبيا، إذ يرى مليكة في المنام بكامل زينتها، تمرّ من أمامه بسرعة، يناديها لكنّها تستمرّ في انطلاقها وهي تلوّح له بذراعها، يناديها ويستيقظ، فيتساءل: هل قالت لي: اكتب روايتي؟ لقد فعلتُ يا مليكة. بذلك يُنهي حضورُ مليكةَ الأخيرُ أحداثَ الروايةَ كما بدأَتْها مُشكّلةً مبنًى دائريًّا لها، ومؤكّدةً دورها في الحياة، فصارت تتراءى لكلّ من السفير وأعوانه لتغدوَ رمزًا لكلّ امرأة، يدعم ذلك قَسَمُ ماجد، سائقِ السفير، على أنّه رأى مليكة في المطار تجرّ حقيبتها، ثمّ اختفت. حقًّا إنّها تُمثِّل كلّ امرأة وهي المعادلُ الموضوعيُّ لكلّ نسائها برأي السفير الذي يقول: ” بل هي أويا، أو ابنتها،[…] وأويا ليست حيطانًا وشوارعَ وساحاتٍ وأسوارًا ودكاكينَ وبيوتَ عبادةٍ ومساكنَ وشجرًا. إنّ في سويداءِ كلِّ ذلك روحًا، ووراء ما نرى قصصًا ودموعَ فرح، وبين طيّاتِ تجاعيدِ مَوْجِها سُكّرًا يُعطي للنخيل عسلَه، وللأغاني قدرتَها على الذّبح والانفعال(191). هكذا تتآلف الشخصيّتان وتنسجمان معًا متقاسمتين عمليّة السرد التي تعكس ثيمات الرواية الرئيسة، ويتأكّد ما ذهبنا إليه من الجمع بين الغرائبيّ والواقعيّ المعيش. من الأمور الغرائبيّة الأخرى في الرواية ما قالته مليكة للسفير بأنّها امرأة غير مرئيّة عندما خشي قيادةَ سيّارتِه وهي تجلسُ إلى جانبه، فتردّ عليه قائلة: “لن يراني أحدٌ غيرُكَ يا سعادة السفير، لا تقلق”(78).
يبدو أنّ الكاتب لا يقوى على التحرّر من سلطان الشعر الذي نجد له حضورًا في مواضعَ عديدةٍ من الرواية، وهذا ما دعاه تزفيتان تودوروف بالاختراق النوعيّ، أو الكتابة عبر النوعيّة ممّا يعمل على خلخلة مسألة صفاء أو نقاء النوع الأدبيّ، فصار العمل الأدبيّ مزيجًا من ألوان أدبيّة مختلفة، ومن النماذج الشعريّة الموظّفةِ في الرواية قصيدةُ مدحٍ لمدينة طرابلس على لسان مليكة احتلّت مساحة صفحتين ونيّف، وفيها تخاطب أهل طرابلس قائلة: “إنّ قلب طرابلس طاهرٌ كضوء القمر والندى،
وقلوب الناس فيها دافئة،
فلا تجعلوا دموعهم مريرةً ساخنة).(53).
ومثل ذلك نجد في نصٍّ شعريّ طويل يمتدُّ على مساحة ثماني صفحاتٍ، تمجيدًا لمدينة أويا وهي قصيدة منسوبة لعائشة، فتاة ليبيا وشاعرتُها التي لاقت موتَها نتيجةَ العذاب الذي تعرّضت له، وقد وُجِدَتِ القصيدةُ في ثنيّات ملابسها، ومما ورد فيها قولها: “وأويا رقصة الظبية،
التي أدارت الجبال بغمزتها، فطوّحته بعيدًا..
ما يفسّرُ انبساط المدينة،
كأنّها ساحلٌ يُعانقُ بساطَ الصحراء،
بمزاجها المتقلّبِ، كعاشقةٍ لا تقبلُ الشُّبهةَ أو الشّكَّ أو الإهمال”(82).
يلاحَظ اتّكاءُ الكاتب على تقنيّة الرمز المتمثّل بصورة بارزة في شخصيّة مليكة التي ترمز لكلّ النساء، فلم تعد المرأة سجينة البيت، إنّما بدت فاعلة في مختلف الميادين، فشاركت في مقاومة المحتلّ، وإسقاط النظام، واتّسعت مداركها وطالبت بحقوقها الحياتيّة، ولم تعد ترضى بتهميشها، فبادرت إلى اختيار شريك حياتها، وتولّت مناصبَ سياسيّةً ونحو ذلك. وفي موضع آخر تظهر المرأة رمزًا لمدينة أويا، أو هي رمز لليبيا، وتطغى الرمزيّة على الرواية في تلك الجملة اللازمة المتكرّرة في نهاية كلّ حكاية التي تنهيها المرأة المتوفّاة قائلةً: “فيما حلّق عصفور فوق رأسي حام وناح، وألقى بالجوار قطعة قُماش بيضاء، ثمّ سقطّ وتحوّل إلى حفنة تراب”. يُعلّق الدكتور عزيز العصا على هذه الجملة قائلًا: “وفي هذه العبارةِ رمزيّةٌ تشير إلى حجم الظلم والقهرِ الآدميِّ الذي تنوح منه حتّى الطيورُ في السماء التي تتضامن مع المغدورة وتموت إلى جانبها، وأمّا قطعة القُماش الأبيض؛ فهي إشارة إلى نقاء المَيْتة وعفّتِها وأنّها “شهيدة” الظلم الاجتماعيّ و/أو السياسيّ”.
يعمد الكاتب إلى تكرار حكاية المرأة التي “أقسم رجلّ أنّه رأى جثّة امرأة وفي يدها قطعة قماش بيضاء، وقد تدحرج رأسها بعيدًا عنها، ثمّ لم يعد يرى لها أثرًا! أين الجثّة؟ أين الجثّة؟ وأين الدماء؟ كاد الرجل يجنّ!”(20 -21)، وتتكرّر الحكايةُ ذاتُها مع نهاية الرواية(219 – 220)، يبدو من تعليق الكاتب أنّ مليكة هي صاحبة الجثّة التي صارت تتراءى لكلٍّ من السائق ماجد والسفير في المرآة، أو في حوش البيت، أو أمام الملحق، يعود السفير إلى مكان الحادث فيرى عصفورًا صغيرًا يتحوّل إلى حفنة تراب، يأخذها ويذرو الرمل في الهواء كصنيع مليكة التي رآها تخرج من عُبِّ الشمس طالبةً منه أن يدثّرَها بقطعة القماش ويصلّيَ عليها، لأنّها في كلّ المرّات التي قُتلت فيها، دُفِنَتْ من غير صلاةٍ أو ثوبِ عروس(221 – 223). يبيّن تكرار هذه الحكاية أنّ مليكة ترمز لكلّ النساء اللواتي قتلن، وتؤكّد غرائبيّة الرواية، و تقدّم احتجاجًا على الانتقاص من المرأة واستلابها حتّى عند موتها، إضافة لتجرّد المجتمع وخاصّة الذكوريّ من المشاعر الإنسانيّة، فهم يرَوْن امرأة تُدْهَس ويتدحرج رأسها في الطريق، ويواصلون طريقهم لا يلوون على شيء، وكأنّ شيئًا لم يحدث بذلك تُصبحُ الروايةُ روايةَ المرأة التي تثور فيها على تهميشها واستلابها وقتلها دون أن يهتزّ لذلك جفنُ رجل!
يلتفت الكاتب إلى التراث الدينيّ الإسلاميّ والمسيحيّ فينهلُ منه بعض الأحداث أو الجملِ التي تؤكّد اطّلاعه على هاتين الديانتين من ناحية، وتدعم من ناحية أخرى الفكرة التي يتناولها، ومن ذلك طلب مليكة من السفير لزومَ الصمتِ وعدمَ سؤالِها عن شيء حتّى تُخبرَه عنه، ممّا يُذكّرُ بقصّة موسى والخضر في سورة الكهف، تقول مليكة: “تأمّل ولا تسأل، ودعني أحكي لك ما يلزم، ولا تقاطعْني، وتذكّرْ يا سعادةَ السفير قصّةَ سيّدنا موسى مع سيّدِنا الخضر عليهما السلام، في سورة الكهف. واضح!”(32- 33)، أو قولها وهي تعرّف نفسَها: “فأنا روح تتّسع وتنبض، تدفق سابحةً، وتتكوّر في عتمات ثلاث”(9)، ممّا يذكّر بالآية رقم (6) من سورة الزُّمَر: “يخلُقُكُم في بطون أمّهاتِكم خلقًا من بعد خلق في ظلُماتٍ ثلاث”. وينهل من أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم في قول الكاتب: “رُفعت الأقلام وجفّت الصحف”(192)، أو سؤال مليكة للسفير: “وكيف تفسّر قول النبيّ عليه السلام عن الأرواح بأنّها جنود مجنّدة تتوافق وتختلف؟”(95)، كما يُذكّرُ بالعشاء السرّي للسيّد المسيح عليه السلام في قول السفير: “فأستذكرُ عيسى عليه السلام ليلةَ عشائه الأخيرِ يَشْخَصُ قائلًا: نشكرُك يا ربُّ لأجل هذا الطعامِ الذي أعطيتنا ولأجلِ خيراتِك التي أنعمت بها علينا، ونسألُك أن تجعلَنا من الجالسين على مائدتك السماويّة.. آمين”(32)، أو ملاحقة عبَدَةِ الأوثان للمسيحيَين كما يتمثّل في قول ملّيسا: “أنا ملّيسا، وزوجي أيّوب البنّاء الذي اعتنق المسيحيّة سرًّا، فانكشف أمرُه، فلقينا ما لقينا من عنَتٍ وأذًى من أبناء مدينتنا الذين كانوا يعبدون الأوثان” (181). ويظهر تأثّر الكاتب بالحركة الصوفيّة وخاصّة بجلال الدين الروميّ الذي يُثبت قولَه في تصدير الرواية، ويعود ليكرّره في تضاعيفها، وهو : “إذا كانت الجنّةُ ما تبحثُ عنه، عجَبًا، فقد أعطيتُها لك!”(55). ونجد حضورًا بارزًا لجلال الدين الروميّ وأقوالِه، من ذلك ما تردّدَ على لسان مليكة التي تعتبر الروميّ شيخَها، وهو: “يا مطربَ العاشقين، حرِّكِ الوترَ، وأضرم النارَ في المؤمن والكافر”(39)، أو ترديد مليكة لقول الروميّ: “إنّ الأرضَ جائعةٌ وسرعانَ ما تحصلُ على لقمة دسمة ثمّ تهدأ”(41).
يزداد انبهار القارئ بما يورده الكاتب من إشارات ثقافيّة تثري القارئ كقول مليكة وهي تعرّف نفسها: “كأنّ لي صورةً تهرمُ نيابةً عنّي، أو أنّني طيرُ الفينيق الساحليُّ الذي يضطرمُ بالأوار، لينهضَ من جديد، بقوادمه وخوافيه”(16)، أو تَذكّرِها قولَ إبراهام لينكولن وضحكها منه، وفيه يقول: “التنبُّؤ أقلُّ المهن فائدةً في العالم”(34)، فقد كسبت أمُّها الجديدةُ مالًا وفيرا من النساء اللواتي قَدِمْنَ لتقرأ لهنّ مليكة الطالعَ والغيب. كما يذكر على لسان مليكة قولًا لعلي بن أبي طالب يقول فيه: “اعرف الحقّ، تعرف أهله” ممّا أثار إعجاب السفير بثقافتها الرفيعة قائلًا: “يا الله! ما هذا يا مليكة، لا تقولي لي إنّكِ تعلّمتِ هذا من ذرّاتِ الرمل؟”(48)، ثمّ يُلمِّح لكتاب “رجوع الشيخ إلى صباه” للإمام النفزاوي، على لسان مليكة أيضًا، إذ تقول: “يمكن للشيخ أن يعود إلى صباه.. وللجسد أسبابه!”(201). بذلك تتجلى غرائبيّة مليكة من ناحية، وتسهم الرواية في إثراء ثقافة القارئ.
تعكس الرواية تنوّعًا كبيرًا في مستويات اللغة الموظّفة فيها، فتحضرُ اللّغةُ السماويّةُ المتّسمةُ باللجوء إلى استخدام المجاز، التشبيه، والاستعارات في مواضعَ كثيرةٍ من الرواية، وهو أمر غيرُ مستهجنٍ عندما يصدر عن شاعر كالمتوكّل طه، يُحلّقُ بلغتِه إلى آفاقٍ واسعةٍ ليجترحَ لغةً ذاتَ نكهةٍ خاصّةٍ، ومن ذلك قولُه على لسان مليكة: “أنا امرأة عاديّةٌ إلى حدِّ الإغراء والانكسار. أسيلُ كلّما أطلق الرجل أحصنتَه الألفَ في ضلوعي، أو أخرَجَ أفراسَه من النهر مبلّلةً بالضوء، أو فحّتِ الأفاعي في ذراعيّ الباردتين”(11). يرتقي الكاتب بلغته في المقاطع الشعريّة التي يضمّنها روايته ومن ذلك قوله في مدح مدينة أويا:
“وأويا كُحلُ المِرْوَد وبكارةُ العين،
وحقيبةُ الراجعين من صَهْد التوحّد ويباس الإسمنت،
إلى الرضا والحضن الفائر بالينبوع
[…] وأويا توبةُ العاقرِ عن الولادة،
ومنحةُ الشهيد ودمُه المعدنيُّ الطّهور”(86 – 88).
يتحوّل الكاتب إلى استخدام لغة معياريّة بصورة تقريريّة مباشرة حسبما يقتضي الموقف، ونجد نماذجَ كثيرةً عن هذه اللّغة في سرد حكايات الرمل على لسان مليكة، أو في الفصول التي يسردها السفير ،فيُعبِّرُ فيها عن موقفه ممّا يدور في كلٍّ من ليبيا وفلسطين كقوله وهو في إجازته: “هل أستطيع الآن أن أرى المشهد الليبيّ أفضلَ وأنا في فلسطين؟ بل هل أقدِرُ على أن أفهم من هي مليكة، وأنا على بُعْد آلاف الأميال منها”(195).
في مواضعَ أخرى تطلّ اللغةُ الجنسيّةُ لتفرضَ نفسَها على النصّ مراعةً لما يقتضيه الموقفُ المذكورُ، ومن ذلك ما تذْكُرُه مليكة في الحفنة الحادية والعشرين، وهي تصف ممارسةً جنسيّة سحاقيّة مع ملاتش(180). ويلجأ الكاتب إلى توظيف اللغة العاميّة في الحوارات التي يعقدها بين مليكة وبين السفير وسائر الشخصيّات الأخرى، ويعنى بنقل اللفظة على حقيقتها، فيعكسُ اللهجةَ الليبيّةَ والفلسطينيّةَ، وحينما يخشى عدم فهم القارئ يُردِفُ اللفظةَ بالمعنى الفصيح، ومن نماذج هذه اللّغة المحكيّة؛ شبّاحة أي متنبِّئة، علاش (لماذا)، شن تخرطي (ماذا تقولين)، الحوّازة (المزرعة)، نِبُّوا إسعاف (اطلبوا)، نهدْرز (نتحدّث). ومن نماذج اللهجة الفلسطينيّة؛ بكّير، يا دوب ساعتين، وبعدين، بقجتي، وغيرها. كما يعمد الكاتب إلى زجّ الأقوال الشعبيّة كقول السفير: “كأنّني هربت من المطر لأقع تحت المزراب”(23)، أو “آخر العلاج الكيّ”(69)، أو “ناره ولا جنّة الثورة”(72).
تبقى ملاحظة واحدة تتعلّق باسم مليكةَ، بطلةِ الرواية، وسائرِ شخصيّاتِها النسائيّةِ إذ يلاحظ القارئ أنّ شخصيّاتٍ كثيرةً حملت نفسَ الاسم أو اسما آخرَ مشتقًّا من الجذر (م. ل. ك)، مثل مالكة، ملكات، مملوكة، ملّوك، ملاك، أو ما ينسجم معها مثل ملاخا، ملاتش، ماليتشا ممّا يشير إلى انتشار الاسم في ليبيا بصورة واسعة، ويعزّز الهويّة الليبيّة النسائيّة.
وبعد؛ فإنّ المتوكّل طه يقدّم للقارئ العربيّ روايةً جديدةً ذاتَ عبقٍ خاصٍّ، يتعالقُ فيها العنصرُ الغرائبيّ مع العنصرِ التاريخيّ الواقعيّ، فيجسّدُ فيها الهمَّ الذي يؤرّقُ المجتمعَ الليبيّ خاصّة والعربيّ عامّةً لما فيهما من استبداد وظلمِ السلطة للإنسان البسيط، وسلبِ ثرواتِ البلاد، إضافةً للثيمة المركزيّة، ثيمةِ المرأة التي أضحت تؤدّي دورَها مضاعفًا، وقد تزوّدت بمعرفةٍ وثقافةٍ تُؤَهِّلانها لخوضِ غمار مجالات الحياة المختلفة، وكأنّي به يتبنّى قضيّةَ المرأةِ فينادي بضرورة الاعتماد عليها، كما هي في المجتمعات الراقية، الأمر الذي يذكّرنا بمقولةِ الكاتب الجزائريّ، محمّد ديب: “لولا البحرُ ولولا المرأةُ لبقينا يتامى، فكلاهما يُغطّينا بالملح الذي يحفظنا”.