قد تساعد البيانات والإحصاءات الرسمية في فهم طبيعة بلدٍ ما، ومعرفة مستويات الحياة فيه.. وقد تساعد الانطباعات الشخصية التي ينقلها من زار البلد، أو أقام فيه ردحا من الزمان.. وقد تعطي نشرات الدليل السياحي فكرة أوضح، أو ما تقوله كتب الجغرافيا والتاريخ.. لكن كل ما سبق يعطي فكرة منقوصة ومجتزأة.. ويظل أهل البلاد، ومن سكنها فترات طويلة هم الأقدر على فهم حاضرها، والتنبؤ بمستقبلها، لأنهم لامسوا روحها، وكشفوا أسرارها، وحددوا هويتها وشخصيتها.
لو أخذنا العراق مثالاً، سنحتار في تحديد طبيعة هويته: هل هي عربية؟ أم إسلامية؟ أم سُنية، أم شيعية؟ أم عربية كردية؟..إلخ، في الواقع أي من تلك التصنيفات كافية لتقسيم العراق، وتجزئة هويته.. العراق كل ما سبق وأكثر.. لا شيء يجمع شتاته ويستوعب مكوناته ويوحده سوى الهوية العراقية الجامعة.
للعراق تاريخ موغل في القِدم، وقد كانت السومرية أول وأقدم الحضارات الإنسانية، ومدينة أريدو على الفرات الأدنى أول مدينة في التاريخ، ثم جاءت حضارات الأشوريين، والبابليين والكلدان.. وصولاً للدولة العباسية.. فيما تعاقب عليه الفاتحون الفُرس والإغريق والعرب والبويهيون والسلاجقة والعثمانيون والإنجليز… سكنه النساطرة والسريان والأرمن والأرثوذوكس والكاثوليك.. والأكراد والصابئة والأزيديون والتركمان.. والبدو، وأهل الحضر والأرياف.. وكان لكلٍ من هؤلاء نصيبه من الأرض، وأثره في التاريخ، وبصمته في الهوية.. فتاريخ العراق تاريخهم كلهم، وهويته الجامعة تصهر وتختزل هوياتهم الفرعية.
صحيح أن بغداد احتلت مركز الصدارة تاريخياً، وارتبط اسمها بالعراق.. بيد أنه لا يمكن فهم العراق بصورة حقيقية وشاملة دون الموصل والبصرة والأنبار وديالى ودهوك والنجف.. بل ودون فهم أصغر ناحية في أبعد ولاية.. كما يصعب فصل الماضي عن الحاضر، أو فصل التاريخ السياسي عن التاريخ الاجتماعي، أو البعد الهوياتي عن المكون الديني، والطائفي.. أو اختزال العراق بحمورابي، ونبوخذ نصر، والرشيد، والمأمون، أو بالعهد الملكي ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم، وصدام.. يجب أن نضيف إلى كل هؤلاء الحجاج، وأبو مسلم الخراساني، والعلقمي، والجلبي، والمالكي.. حتى تكتمل الصورة بشقيها الإيجابي والسلبي، وتظهر بكافة ألوانها الحقيقية.
لذا؛ تاريخ العراق ليس فقط ذي قار والقادسية وذات السلاسل، هو أيضاً كربلاء، وتمرد الخوارج وثورة الزنج.. وحروب صدام.. تاريخه ليس فقط في حكايات السندباد، وقصص ألف ليلة، وكليلة ودمنة.. هو أيضا حكايات الجوع والخوف وحملات القمع والاضطهاد.
تاريخ العراق هو جلجامش، وسمير أميس، والحسن البصري، وابن حنبل، والجاحظ، والفرزدق، والأصمعي، وابن سينا، والرازي، والمتنبي، وأبو تمام، والرصافي، والسياب، ونازك الملائكة، والبياتي، ونصير شمة، وناظم الغزالي، وسعدون جابر، وكاظم الساهر.. وزها حديد، وجواد سلیم، وغني حكمت، ولميا عباس.. ويجب أن نضيف إلى كل هؤلاء من ابتكر صنارة الصيد، ومن اخترع الدولاب، ومن كوّر الفخار، ونقش على النحاس في سوق الصفافير.
روح العراق تجدها في شارع المتنبي؛ أكبر مكتبة شعبية في العالم، فهناك ستجد أستاذا جامعيا ضاقت به الحياة فأتى لبيع بعض كتبه، وستجد من نهَبَ مكتبةً من بيتٍ فـرَّ أهله تحت وطأة الحرب، وستجد من أتى يطلب المعرفة، ومن يبحث عن كتاب منعته كل دول المنطقة.
روح العراق في شارع أبي نواس، حيث تصطف المشارب والبارات، وأغاني أم كلثوم في العصاري الحالمات، وحيث السمك المسقوف الطازج، المشوي على الحطب، وفي المستنصرية، وراغبة خاتون، وشارع الرشيد، والشورجة، وسوق الغزل، والسراي، حيث فيها كل نادر وغريب، وما لا تجده في غيرها من الأسواق.. وفي شارع السعدون، حيث شاي أبو الهيل، ولبن أربيل الفريد في طعمه، وعصير الشمام الذي يبلل الروح الظمئة في قيظ تموز.
وفي أكلاته الشهية: في قيمر ديالى المستخلص من حليب الجاموس، وهي وجبة الفطور الأشهى.. والتي لا ينافسها سوى شوربة العدس الصباحية، أما وجبة الغداء الألذ فهي كباب نينوى، أو التشريب المشبع بالطماطم ولحم الضأن، مع أرز البرياني، أو الدولمة، أما العشاء فوجبة الباجة الشهيرة..
تمر العراق الخستاوي هو الأحلى، ينافسه في الحلاوة رقائق الكاهي، أو المن والسلوى والذي تختص به أربيل والسليمانية.
روح العراق في لطميات الفقراء في عاشوراء، ذكرى مقتل الحسين وآل البيت، وفي الدراميات الحزينة، وفي دبكات الجوبي، وأعياد النيروز، وموسيقى شفان الكردي.. فثقافة العراق حصيلة تاريخ طويل من التنوع الحضاري، والعرقي، والديني، والمذهبي، واللغوي.
روح العراق في جامعاته العريقة، تسكن في كل مكتبة، وتحلّق في كل مركز بحث علمي في أنحاء المعمورة، وتجدها أيضا في دماء من قاوم الاحتلال الأميركي، ومن غدرت بهم قوى الطغيان، وقبل ذلك في مقابر الشهداء في جنين ونابلس.
روح العراق في قلعة أربيل، وملوية سامراء التي قصفها الإرهاب، وأسد بابل، وبوابة عشتار الشهيرة المحتجزة في متحف برلين، ومئذنة الحدباء التي هدمتها داعش، وفي الجسر الحديد الواصل بين الكاظم، وأعظمية أبو حنيفة، والذي نسفه الطائفيون، وفي الأهوار، وفي كنوز النمرود التي نهبها الأميركيون، وفي غابات النخيل في البصرة، التي تحملت القصف الإيراني..
تلك هي روح العراق وأسراره.. أما ما يحدث فيها من تفجيرات عشوائية، وعمليات إرهابية، وفتن طائفية، وفساد، ولصوصية، وميليشيات.. فهي ما فاضت به مجاري العراق، هي مكب النفايات الملحق بأي مدينة كبيرة، هي البثور الناتئة التي شوهت وجهه بعد أن أعياه المرض.. هي ما علق على الغربال بعد أن هزته رياح التغيير..
سلام على العراق في الأولين وفي الآخرين.