بقلم: إدوارد لوس /قبل فترة قصيرة من سقوط جدار برلين أعطى الزعيم السوفياتي الأسبق، ميخائيل جورباتشوف، الضوء الأخضر لأمر جريء بقدر الجرأة المتمثلة في إزالة جدار برلين. فقد سمح لزبيجنيو بريجينسكي، أحد صقور الحرب الباردة الرائدين في أميركا، والبولندي المولد، بزيارة موقع مذبحة كاتين. هناك في الغابات المحيطة بمدينة سمولينسك تقع المقابر الجماعية لـ 22 ألفا من البولنديين الذين ادعت موسكو أنهم قُتلوا على يد ألمانيا النازية.
دائما ما كان يغلب على ظن زبيج، وهو الاسم الذي كان يُعرف به بريجينسكي، أن الأمر بخلاف ذلك. فقد علم بأمر المجزرة وهو مراهق يعيش في المنفى في كندا، حيث ورث تشككه عن والده، وهو دبلوماسي بولندي. بعد مضي نحو نصف قرن على ذلك، سمح آخر زعماء الاتحاد السوفياتي لبريجينسكي الابن بزيارة الموقع. وكتب بريجينسكي على إكليل من الزهور: “إلى ضحايا ستالين والشرطة السرية السوفياتية”. لقد كانت لحظة فائقة لانتصار الحقيقة.
من المستحيل رواية الجانب الأميركي من الحرب الباردة دون تعقب الحياة المهنية لهنري كيسنجر وبريجينسكي. فارق العمر بينهما خمس سنوات، وولد أحدهما في ألمانيا والآخر في بولندا، إلا أن الاثنين سيطرا على “جامعة الحرب الباردة” في أميركا في الخمسينيات والستينيات. لم يفقد أي منهما لكنته التي تدل على أنه من أوروبا الوسطى. أحدهما أدار السياسة الخارجية لرئيس جمهوري، ريتشارد نيكسون، والآخر لرئيس ديمقراطي، جيمي كارتر.
تبختر الاثنان في واشنطن في السبعينيات مثلما تبخترا في جامعات أميركا الراقية من قبل (كيسنجر تخرج في جامعة هارفارد ثم عمل أستاذا فيها. وبريجينسكي عمل أستاذا في جامعات هارفارد وكولومبيا وجونز هوبكنز). وعمل صعود نجميهما على كسر قبضة Wasps (إشارة إلى البيض الأنجلو سكسون البروتستانت). حاجة أميركا الماسة إلى وجود أناس يتفهمون روسيا عملت على تحطيم ذلك الاحتكار. باستثناء جورج كينان، أول خبير استراتيجي عظيم للحرب الباردة في أميركا، لم تكن تمتلك تلك النخب من الـ Wasps المهارات والدراية الكافية للتعامل مع هذا الأمر. كان التعليق الساخر هو ما يلي: “لم يحدث من قبل أبدا أن كان لدى كثير من الناس معرفة قليلة للغاية حول كثير من الأمور”.
كانت معرفة كل من كيسنجر وبريجينسكي كبيرة جدا. وهو ما يجعل الأمر حتى أكثر غرابة أن تكون هذه أول سيرة كاملة باللغة الإنجليزية لبريجينسكي وهي بعنوانZbigniew Brzezinski: America’s Grand Strategist (توجد سيرة واحدة مكتوبة باللغة البولندية)، فيما يوجد أكثر من عشرة كتب حول كيسنجر، ونحن بانتظار المجلد الثاني للسيرة المعتمدة بقلم نيال فيرجسون. علاوة على ذلك هذه السيرة عن بريجينسكي هي ترجمة من اللغة الفرنسية. والمؤلف، جوستين فايس، هو رئيس تخطيط السياسة في وزارة الخارجية الفرنسية. ما الذي يفسر مثل هذا الاختلال؟
جزئيا، يعود السبب في ذلك إلى الرئيسين اللذين كانا يعملان لديهما. يُنسب الفضل إلى الرئيس نيكسون لكونه عبقريا ميكيافيليا استطاع فصل الصين عن المدار السوفياتي في العام 1972. أما كارتر فإنهم يتذكرونه كونه أفسد أزمة الرهائن الإيرانية في الفترة 1979-1981. وجزئيا يعود السبب إلى شخصية هذين الرجلين. كان كيسنجر يحب الأضواء وعمل على استقطاب الصحافيين. أما بريجينسكي فكان “مهمِلا تقريبا” من حيث افتقاره للاهتمام بوسائط الإعلام، بحسب ما يقول فايس. يصل حجم مذكرات كيسنجر إلى نحو أربعة آلاف صفحة. أما مذكرات بريجينسكي فهي أكثر تواضعا؛ 573 صفحة.
كيسنجر أستاذ في التملق. وبريجينسكي، الذي مات العام الماضي، عن عمر يناهز 89 عاما، كان فجا بحيث كان ذلك جانبا سلبيا من شخصيته. وقدرته على أن يكون موضوعيا كانت موضع شك باستمرار. قبل سنوات من اكتساب بريجينسكي النفوذ، علِم أن إيفريل هاريمان، أحد أكبر الأسماء في أميركا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، استهان به واعتبره بولنديا منحازا. كتب بريجينسكي إلى هاريمان للاحتجاج على أن أصوله لا تحول دون أن يكون مؤهلا للتعامل مع العلاقات السوفياتية الأميركية، مثلما أن “خلفيتك مليونيرا رأسماليا لا تمنعك من التعامل بذكاء مع الشيوعيين من الاتحاد السوفياتي”.
لم يكن من المستغرب أن شخصيات المؤسسة الحاكمة حثت كارتر على عدم تعيين بريجينسكي مستشارا له للأمن القومي. أحدهم كان سايروس فانس، الذي أصبح وزير الخارجية في عهد كارتر، الذي كان بريجينسكي يتفوق عليه بشكل روتيني. ردا على سؤال حول السبب في أنه تم السماح بأن يتفوق المستشار (بريجينسكي) على وزير الخارجية (فانس)، أجاب كارتر: “لأن زبيج يرسل لي عشر أفكار في الليلة، وكنت محظوظا إن حصلتُ على فكرة واحدة في الشهر واردة من وزارة الخارجية”.
عملت أفكار بريجينسكي – لحسن الحظ وأحيانا لسوء الحظ – على تشكيل التاريخ. من بين تلك الأفكار كانت معاهدة كامب ديفيد التي أبرمت في العام 1977 بين إسرائيل ومصر، التي لا تزال معاهدة السلام الدائمة الوحيدة في الشرق الأوسط. بعد أن اخترع مصطلح “الانخراط السلمي”، سعى بريجينسكي لتحقيق الانفراج مع الاتحاد السوفياتي، وضغط من أجل حقوق الإنسان خلف الستار الحديدي. يقول فايس إن تأكيد كارتر على حقوق الإنسان – ودعم بريجينسكي للأدب المنشق المحظور من الدولة والذي كان يوزَّع سرا – لا يحظى بثناء كاف من حيث تسريع زوال الاتحاد السوفياتي.
بالمثل، يستحق بريجينسكي مزيدا من الفضل لإكماله عملية تطبيع العلاقات بين أميركا والصين. فاستعادة العلاقات الأميركية الصينية تم إبرامها خلال مأدبة عشاء مع دينج زياو بينج في بيت داخل مزرعة يمتلكها بريجينسكي في ولاية فيرجينيا. وتميزت ليلة النصر تلك بالمفاجآت: مايكا، ابنة بريجينيسكي الصغيرة، التي تعمل الآن مذيعة تلفزيونية مشهورة، سكبت الكافيار على بدلة دينج. وشوهد فانس وهو يحرك رأسه تعبيرا عن الاستياء.
على الجانب السلبي، يُلقى باللوم على بريجينيكسي في أنه ساعد على نمو إرهاب المتطرفيين بسبب دعمه المجاهدين في أعقاب غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في العام 1979. وقد تم تصويره على الحدود بين باكستان وأفغانستان وهو يحمل رشاش كلاشنكوف. ويرفض فايس مباشرة فكرة أن بريجينسكي كان نوعا ما مسؤولا عن تنظيم القاعدة. لكن الموضوع الأهم كان أزمة الرهائن الإيرانية، التي أسهمت في هزيمة كارتر أمام ريجان في عام 1980. لم يخرج أحد من هذا الموضوع سالما، بمن فيهم بريجينسكي، الذي كان مندفعا للغاية ومتحمسا لعملية الإنقاذ التي كان مصيرها الفشل في نيسان من ذلك العام.
لكن بصورة إجمالية فايس يعطي بريجينسكي علامة عالية. بخلاف كيسنجر، لم يكن هناك مستشار مثل بريجينسكي كان يهيمن على أجندة الرئيس. وكان عقله حادا مثل لسانه. وحين عين مادلين أولبرايت، التي ستصبح فيما بعد وزيرة للخارجية، حذرها الأصدقاء من أنها ستصبح “صغيرة أمام بريجينسكي” حين تعمل لديه. وحتى هذا اليوم لا تزال أولبرايت – وهي لاجئة أخرى من أوروبا الشرقية – تعطي الفضل إلى بريجينسكي باعتباره أعظم معلميها. ونفوذه نادرا ما كان يصاب بالوهن. في العام 2008 طلب باراك أوباما – الذي كان مرشحا للرئاسة آنئذ – من بريجينسكي أن يقدمه إلى الحضور قبل إلقاء كلمة مهمة. ونصح أوباما بألا يطلق عليه لقب مستشار. فهذا يمكن أن يؤذي أوباما في أعين اللوبي المؤيد لإسرائيل.
الهمسات بمعاداة السامية كانت تلاحق بريجينسكي – مرة أخرى السبب في ذلك إلى حد كبير هو أصوله البولندية. فايس يرفض هذه الأقوال على أن المقصود منها هو “التشويه، لا أكثر ولا أقل”. فحين التقى مناحيم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ببريجينسكي في العام 1977، قدم له وثائق عن دور والده في إصدار تأشيرات خروج إلى اليهود الألمان حين كان قنصلا لبولندا في الثلاثينيات. بعدها أصرت برلين على سحب بريجينسكي الأب. بريجينسكي الابن لم ينس قط لفتة بيجن. في التسعينيات، حثه أصدقاء على أن يرشح نفسه لرئاسة بولندا. لكنه اعتبر أنها فكرة غير جيدة. أميركا كانت موطنه. وكما قال أحد زملائه: “أميركا هي مكان يستطيع فيه رجل يدعى زبيجنيو بريجينسكي أن يصنع لنفسه اسما دون حتى أن يغير اسمه”.
عن “فاينانشيال تايمز”