اعتبره المؤرخون أحد أبرز وأهم معالم الرقي والنهضة في الأندلس؛ فيما اعتبره آخرون أحد أهم أسباب سقوطها!
فما هي قصة زرياب؟ وما هي حقيقته؟
اسمه أبو الحسن علي بن نافع، ولد في الموصل سنة 789م، وعاش صباه وشبابه في بغداد، ولأنه كان أسمر البشرة وذا صوت عذب سُمي بزرياب، تيمنا بالطائر الأسود المغرد «الشحرور».. أي أنه سبق الفنانة صباح بلقبها «الشحرورة».
كان ذا موهبة عبقرية، فتعلم الغناء والموسيقى على يد شيخ المطربين في بغداد إسحاق الموصلي، الذي عرّفه بالخليفة هارون الرشيد وأدخله إلى بلاطه، فانبهر الخليفة بجمال صوته وحُسن عزفه، حتى فضّله على أستاذه الموصلي، الذي ثارت في دواخله مشاعر الغيرة والحسد، فدبر له مكيدة كادت تقوده إلى الذبح بالسيف، لولا تمكنه من الهروب خارج حدود الدولة العباسية كلها، ليختار الأندلس.
كانت الأندلس آنذاك تعيش عصرها الذهبي؛ حيث الرفاه والجمال والقصور والحدائق الغنّاء، وأجواء التسامح والتعايش والانفتاح، وازدهار العلوم والفنون.. فراسل زريابُ أميرَ قرطبة الحكم بن هشام، وأبلغه رغبته بالمجيء إلى بلاده، فرحب به أيما ترحيب، لكن القدر سبقه فمات قبل أن يرى زرياب، لكن ابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط كان يعرف زرياب ويقدّر فنه وعبقريته، فخرج بنفسه مع حاشيته لاستقباله عند تخوم قرطبة، وأكرمه وأغدق عليه الهدايا والأعطيات..
وهناك عاش زرياب أحلى أيام حياته، وظل فيها حتى توفي سنة 857م.
طالما اشتهر عن زرياب أنه أضاف الوتر الخامس للعود، وأنه كان أستاذا فذا في الموسيقى، وأحدث ثورية موسيقية غير مسبوقة، وأن موسيقى الفلامنكو تدين له.. لكن هذا ما هو إلا الجزء البسيط والمعروف عنه، وإنجازاته الأهم هي التي ظلت مجهولة؛ إنجازاته التي ستغير وجه الأندلس كليا، ومن بعدها ستغير وجه أوروبا والعالم.
قبل زرياب لم تكن الأندلس تعرف الغناء والطرب، إلا في حدود القصور، وحفلات الجواري والغلمان.. فعمل زرياب على نقلها إلى الشوارع والأسواق، وأن تكون للعامّة، فشاعت الأغاني والحفلات وصارت شعبية، ثم خلق مزيجا من الفن العباسي والأندلسي فظهرت الموشحات، ثم أسس أول معهد لتعليم الفن والموسيقى سماه «دار المدنيات»، وكان يجري فيه اختبارات للهواة والمبتدئين ويطور موهبتهم، بما في ذلك النساء ولأول مرة، وأسس فرقا للإنشاد والرقص، وظهر من بعده عدد لا يُحصى من المغنين والعازفين والراقصين.. أي أنه سبق برنامج «عرب أيدول» بمئات السنين.
في ذلك الزمان كانت الأندلس أغنى دولة في القارة الأوروبية، وأكثرها تقدما وتطورا، وشعبها هو الأرقى والأكثر تحضرا، وهي لم تساهم في نشر العلوم والمعرفة إلى بقية أوروبا من خلال جامعاتها والطلبة الذين يفدون إليها من كافة الأنحاء، أو من خلال الكتب التي تمت ترجمتها من العربية (لغة العلم في ذلك الزمان) إلى اللغات الأوروبية؛ ليس هذا وحسب؛ بل إن فضل الأندلس على أوروبا في تعليمها أسس الإتيكيت وأساليب السلوك الحضاري في المأكل والمشرب والملبس والنظافة.. وكان الفضل في ذلك لزرياب.
لم يكن زرياب مجرد مغنٍ وملحن، كان متعدد المواهب، فلم يكتفِ بنقل الموسيقى وأدواتها ومقاماتها من الشرق إلى الغرب؛ فهو من أسس علم الإتيكيت والأناقة.
وبسبب قربه من الخليفة الذي أحبه، صار زرياب ضيفا على قصور الأمراء وعلية القوم، ومن خلالها بدأ بنشر ثقافته الخاصة، والتي سرعان ما انتقلت إلى الناس.
كان زرياب ذا ذوق رفيع، شديد الاعتناء بالنظافة والمظهر والأناقة.. فمثلا موضوع الملابس لم يكن عنده مجرد أقمشة ثقيلة تغطي الجسم وتحميه من برد الشتاء، أو أقمشة خفيفة تساعد في التكيف مع حر الصيف (كما كان شائعا).. كانت الملابس بالنسبة له فنا وذوقا، فبدأ ينشر ثقافة الأزياء؛ أزياء تناسب كل فصل من فصول السنة، وأزياء خاصة بكل مناسبة، وأزياء خاصة لاستقبال الأمراء، وأخرى للعمل، وأخرى للنوم، وهذه الأزياء يجب أن تكون مكوية، ونظيفة، وبألوان متناسقة، وأن تتغير كل سنة، وأن تتجدد كل موسم، بمعنى أنه أول من اخترع فكرة «الموضة».
في مجال الطعام، ابتدع زرياب فكرة مفرش المائدة، وأهمية تغييره وتنظيفه، واستبدل طريقة الشرب بالأواني المعدنية والفخارية بالأواني الزجاجية، وجعل منها أشكالا متنوعة، وهو أول من أدخل الحساء قبل الوجبة الرئيسة، على أن تتبعها الحلويات والمكسرات، ودعا لتناول الطعام بهدوء، ومضغه دون إحداث صوت، واستعمال الشوكة والسكين بدلا من الأيدي، كما اهتم بترتيب الأطباق، وتنسيق المائدة، وضرورة توفر مناديل خاصة بالرجال وأخرى معطرة للنساء.
كما ابتكر زرياب معجونا خاصا لتنظيف الأسنان، ذا رائحة طيبة، وأرسى قواعد معينة للحلاقة، وابتكر أشكالا عديدة لتسريحات الشعر للشبان والفتيات، وكان مولعا بالعطور، وأنواعها، ومواقيتها.. وأول من ابتكر مزيل العرق، كما أدخل حلويات ومعجنات جديدة، منها الزلابية، كما نقل لعبة الشطرنج إلى الأندلس، وكان أول من أدخل أصص الأزهار إلى شرفات المنازل.
بمعنى أن زرياب من أوائل وأهم من أرسى الثقافة المدنية والسلوك المتحضر والحضور الأنيق في كل شيء تقريبا.. ومع ذلك، اعتبره البعض سببا في سقوط الأندلس، بحجة أن موسيقاه وفنه شغلت الناس عن تعلم الفقه وأصول الدين، وأنه سبب في شيوع الفسق والمجون وحياة الترف، التي مهدت لسقوط الدولة.
وهذا يقودنا لأسئلة فهم الحضارة والمدنية، من الذي أوجدها وبناها: هل هم الفقهاء ورجال الدين؟ أم السلطات والجيوش؟ أم جمهور الفنانين والعلماء والفلاسفة؟
عن صحيفة الايام