دخلت الكارثة السورية عامها الثامن، وهي لا تزال تتقلب على فوهة بركان: مدن وقرى مهدمة تحولت إلى مقابر جماعية لمئات الآلاف من الشعب السوري، ومجازر مفتوحة في كل مكان: الغوطة، دوما، عفرين، إدلب، وملايين المشردين السوريين في أصقاع العالم، ومسرح يتصدره الأشرار من كل مكان.
وتفوقت الأزمة السورية في كثافاتها وزخمها وتحولاتها وتقاطعاتها، على ما عداها من الأزمات، ففي الدراما السورية فائض من التراجيديا لا يمكن للكتابة أن تحيط به بأمانة، وخاصة أن التجربة ما زالت مستمرة، ولم تصل إلى خاتمتها، ليمكن تأملها وتقييمها، هناك شيء قيامي جرى ويجري في سورية.
سبع سنوات عجاف انقضت على الثورة السورية، منذ كتب أطفال سوريون على جدران مدرستهم في مدينة درعا عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”. عندها لجأ النظام السوري إلى القمع الوحشي لهؤلاء الأطفال، لتبدأ بعدها فصول في الدراما السورية، وليتم استدراج الثورة التي بدأت سلمية، إلى مربع العسكرة والاسلمة، ثم للتحول بعدها إلى حروب بالوكالة والمال السياسي المريب، إلى أن أصبحت سورية مسرحاً لحروب الآخرين على أرضها.
بدأت الأزمة السورية بطبقة واحدة عنوانها الكرامة والحرية والإصلاح في نوعية وهوية الحكم، فقرر النظام التعامل معها أمنياً، وبعنف مفرط، تراكمت الطبقات الواحدة تلو الأخرى بإدخال مجموعات إرهابية في الملعب السوري، فأفرج نظام الأسد عن مسجونين وإرهابيين، كما تم استدعاء المتطرفين إلى المربع السوري بقرار متعدد الجنسيات، ونجح بشار في أن يحول الثورة السورية المحقة إلى أزمة إرهاب عالمي، ووضع العالم أمام خيارين: إما أن يقبل به وبنظامه، أو أن يكون البديل “داعش” والنصرة.
عندما هبت أعاصير الخريف العربي على دمشق، وحدهم جهابذة الجغرافيا السياسية، قطعوا بأن سورية لن تجني من ورائه إلا ودياناً من الدماء، وتلالاً من الأموات، فهؤلاء لم ينظروا إلى سورية بصفتها دولة وشعباً، ولكن بصفتها وظيفة جغرافية وبشكل حصري، ورقعة محورية على الجغرافيا السياسية.
وهذه النظرة الثلجية إلى سورية، كانت سر ما سمى بدهاء حافظ الأسد وديمومة نظامه الأمني المخابراتي رغم ضيقه وقسوته وتنكيله بالشعب السوري، فقد حصن الأسد نفسه كاهناً أميناً في معبد الوظيفة الجغرافية والحراسة الحدودية.
كان النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد قد اعتاد على لعبة عدم وضع البيض في سلة واحدة، ما كان يتيح له هامشاً من المناورة واللعب على التوازنات والتناقضات، والتهديد بنقل القدم من معسكر إلى معسكر آخر، وعزز النظام موقع سورية الجيو إستراتيجي، من خلال تمسكه بخوض الصراع مع إسرائيل بطريقة خاصة ومضطربة تحتمل التسويات والصفقات والرسائل.
وفيما بعد باركت الأسرة الدولية عملية التوريث في سورية، وانتقال الحكم من الأب إلى الابن بشار الأسد، فالمهم دولياً أن يحافظ الوريث على إرث والده في أن يكون لاعباً حدودياً بارعاً.
وما قاله بشار الأسد عن وجود مؤامرة كونية في سورية صحيح، ولكن ليس على نظامه البعثي، ولكن على الثورة السورية الفتية.
ولولا هذه المؤامرة الكونية، لتمكنت الثورة السورية من خلع بشار الأسد ونظامه في أشهرها الأولى، وما تجرأت إيران وميليشياتها على دخول سورية لنجدة بشار الأسد على مرأى ومسمع من العالم ومن واشنطن، ومن بعدها القوات الروسية لإنقاذ نظام الأسد الذي كان قاب قوسين على الانهيار بتعامٍ دولي مقصود.
ولكن هذا لا يعني إعفاء المعارضة السورية، من أن تتحمل قسطاً وافراً من المسؤولية عن الجرح السوري النازف، إما لتشتتها أو ضعفها، أو ارتهانها للخارج، أو لصراعاتها الداخلية على المناصب والامتيازات وتقاسم جلد الدب قبل اصطياده.
المعارضة السورية التي خانها الحلفاء مرة، وخانت نفسها مرات عدة، لم تكن مهيّأة أو قادرة على محاربة محور عسكري يضم روسيا وإيران والنظام السوري. وكانت ضحية تجيير وتضليل قوى عربية لها لتصفية حساباتها الإقليمية. كما أن المعارضة السورية تورطت في معادلة كارثية وهي أنها ظنت أن في وسعها فتح جبهتين شرستين: وهما ضد النظام السوري وضد “داعش” وأخواتها، في الوقت الذي تحول كثير من المسؤولين في المعارضة إلى أمراء حرب غير مؤثرين، بل أتباع وموالين.
ولسوء حظ الثورة السورية، تم ربطها في الوعي الجمعي والدولي بتلك الخلفية الدرامية لما آلت إليه الأوضاع في بلد الجوار– العراق- عقب إسقاط نظام صدام- وما آلت إليه الأوضاع في ليبيا عقب التدخل العسكري.
لكن قاصمة الظهر، كانت حرب الهويات وحروب الإلغاء التي خاضها المجتمع السوري متعدد الطوائف، في حين كان النظام السوري هو الراعي الرسمي لتلك الحروب، فهي كانت رأس ماله وصنعته.
ففي حرب الهوية، تضيق المساحات الفاصلة بين الضحية والجلاد، إلى درجة أن يصبح الضحية صورة طبق الأصل عن الجزار، ومع مرور الوقت يتبادل الضحية مع الجلاد الأدوار فوق جثث المدنيين الأبرياء.
ومع دخول الأزمة السورية في عامها الثامن، تحولت سورية إلى شركة متعددة الجنسيات وعابرة للقارات، مع احتلال تركيا لعفرين، وما حصل قبله من سيطرة روسية إيرانية على سورية المفيدة، وتمركز القوات الأميركية في منطقة شرق الفرات وجنوب سورية.
وفي كلمات أدق تحولت سورية إلى بيارة للمافيات من كل حدب وصوب، وإلى مشهد يتصدره الأشرار من كل جهة، ويتقاتلون فيه فوق جثث السوريين.
سورية التي نعرفها ذهبت ولن تعود، وما حصل ما لم يكن ليحصل لولا تحوّل النظام السوري إلى تاجرٍ مستعدّ للسمسرة بالدولة والشعب والناس والوطن والتاريخ من أجل أن يستمر إلى الأبد- الأسد إلى الأبد-، وهذا ما حصل في طول وعرض السنوات السبع العِجاف.
كان من المفترض أن تكون الذكرى السابعة لاندلاع النكبة السورية مناسبة لمراجعة نقدية لمسار الثورة السورية، ولسنوات الجمر والنار، غير أنه من الصعب علينا أخذ المسافة الإجبارية لهضم الحدث السوري بعيداً عن لحظة الاشتباك وانفعالاتها العاطفية التي تبقى موزعة على خريطة الانقسامات الفكرية والأيديولوجية والتقاطعات.
ولكن ما يمكن الجزم به أنه لا أحد منتصر في الهزيمة السورية، التي لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً من هول الدمار وبشاعة القتل بدم بارد، وأعداد الجرحى والمعوقين.
فلا شيء عدمي أكثر من مشهد السوريين بعد سبع سنوات على ثورتهم وعلى اشتعال حروب العالم كله على الأرض السورية.
سبع سنوات عجاف على الثورة السوريةبقلم :عبير بشير
