ثمة محاولة لرسم خط تحت حرب العراق، ثم محوها من المخيلة باعتبارها حدثاً يندى له الجبين، والذي يفضل أن يودع في مستودع التاريخ وحسب. لكن ثمة الكثير الذي نستطيع تعلمه من الخبرة عن التحديات التي تواجه البلدان التي تمر في فترة انتقالية، ومحدوديات قوتنا والتداعيات غير المقصودة للتدخل الخارجي.
الدرس الأول: التدخلات تحتاج إلى الشرعية
بينما سيستند معيار التدخل دائماً إلى تفسير المصالح القومية، فإن مستويات الدعم المحلي والإقليمي والدولي ستؤثر على فرصة نجاحه. وقد تم تحدي شرعية التدخل في العراق منذ البداية، ومن الممكن أن يفهم فقط على خلفية هجمات 11/9 والخوف الأميركي من التعرض لهجمة أخرى على الوطن.
الدرس الثاني: ينبغي أن تكون التدخلات ذات أهداف محدودة وواضحة وواقعية، ومقتصدة جيدأ.
بعد الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، انتقل مسوغ الحرب من تغيير النظام إلى المخطط الأعلى المتمثل في زرع الديمقراطية. وكان هناك دائماً تباين بين الأهداف والخطط والتنظيم والموارد.
الدرس الثالث: انهيار الدولة يفضي إلى العنف المجتمعي
في أي مجتمع، تكون الدولة هي التي توفر الإطار الذي تتعايش فيه كل الطوائف والجاليات وتتنافس. ويكمن التحدي في كيفية تطهير نظام ما من أسوأ العناصر فيه، في نفس الوقت الذي يتم فيه الحفاظ على الدولة. وقد أفضت القرارات التي اتخذها الائتلاف الأميركي البريطاني إلى احتلال البلد (من دون قوات كافية) وصرف القوات الأمنية العراقية (بدلاً من استدعائها)، وتنفيذ حل حزب البعث بشكل معمق (بدلاً من إزاحة الذين كانوا قد ارتكبوا جرائم ضد الشعب العراقي)، أفضت هذه القرارات إلى انهيار الدولة وشيوع العنف المجتمعي.
الدرس الرابع: يعتبر التوصل إلى اتفاق نخبوي شامل أمراً حاسماً لكسب دعم واسع النطاق للنظام الجديد
كان من شأن العقد النخبوي الذي تمت صياغته على عجل وكيفما اتفق في العراق أن ضمن السيطرة الإسلامية الشيعية المدعومة من جانب القوميين الأكراد. وقد مال ذلك العقد بقوة إلى جانب المنفيين الذين كانوا معارضين لصدام حسين، والذين استخدموا علاقتهم مع الائتلاف لاستثناء شرائح رئيسية من المجتمع، والتي ظلت موجودة في العراق طوال الوقت.ولذلك، نجد أن خريطة الطريق للانتقال قد لاقت الرفض من جانب أولئك الذين عزلهم النظام الجديد –لم تقد إلى الاستقرار وإنما إلى المزيد من العنف.
الدرس الخامس: الانتخابات لا تسبغ الشرعية بالضرورة على النظام الجديد
بينما تم اعتبار انتخابات العام 2005 علامة مهمة على الطريق نحو الديمقراطية، فقد عملت في الحقيقة على مفاقمة التوترات بين الطوائف في العراق، نظراً لأن الساسة استخدموا النزعة الطائفية على نحو متزايد في حشد الدعم لأنفسهم. وقد ركزت النخب الجديدة على الاستحواذ على السلطة أكثر من تركيزها على قديم الخدمات للشعب. ولا تتمتع القوانين الانتخابية الجديدة بالحياد، كما أن الطريقة التي تصمم بها يمكن أن تؤثر على العلاقات بين الطوائف. وبينما تجلب الانتخابات الأولى نخباً جديدة إلى السلطة، فإنها الانتخابات التالية هي التي تحدد الكيفية التي تطيع بها النخب هذه السلطة. وهي تعرف ما إذا كان النظام الجديد هو ذلك النظام الذي يتم فيه اقتسام السلطة أو نقلها سلمياً مع تقوية الهيئات الديمقراطية -أو ما إذا كانت ستتم مصادرة الدولة وإخضاع المؤسسات لإرادة الحكام الأوتوقراطيين الجدد.
الدرس السادس: للتدخلات الخارجية تداعيات غير مقصودة حتما
أفضى التدخل في العراق إلى قيام حرب أهلية، ومقتل أكثر من 100.000 عراقي، وأحال البلد إلى ميدان معركة للقوى الإقليمية بدلاً من أن يكون حداً فاصلاً بينها. وساعد ضعف العراق الجديد في عودة صعود إيران، وهو ما أشعل فتيل تنافس إقليمي على السلطة بين العربية السعودية وتركيا من جهة، وإيران من جهة أخرى، مع تداعيات مأساوية في سورية.
وثمة مخاطرة بأن نستقي الدروس الخطأ من العراق. فقد تم إنفاق بلايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيين والبريطانيين على “بناء الأمة” في العراق، وإنما مع نتائج غير مؤثرة حيث يظل “النظام الجديد” يواجه التحديات بشكل كبير. وقد وضعنا جهداً غير كافٍ في التوسط من أجل إبرام مصالحة على المستوى الوطني بين النخب العراقية، وفي وضع ضوابط ورقابة على السلطة التنفيذية. كما أضعنا الكثير من الطاقات على المبادرات التي لم تكن حاسمة ولا قابلة للاستدامة.
الآن، ينزلق العراق الذي تركناه وراءنا نحو الاستبدادية والتفكك، بدلاً من الديمقراطية. ويستمر بعض المسؤولين في توجيه اللوم في متاعب العراق إلى “العداوات القديمة” بين المجتمعات المختلفة،أو لوم تنظيم القاعدة وإيران. ولا شك أن حكم صدام العنيف كان قد خلق مشاعر كراهية “جديدة” بين المجتمعات التي كانت تعيش سوية غالباً في ظل جو سلمي لقرون، لكن الزواج بين الطائفتين السنية والشيعية ظل شائعاً، وهكذا الحال بالنسبة للإحساس بالهوية العراقية في أوساط المواطنين العرب على الأقل. ومن المؤكد أن القاعدة وإيران فاقمتا العنف في العراق، لكنهما لم تكونا السبب في قيام الحرب الأهلية. وبالمثل، ثمة القليل من التفكير في أثر السياسات الماضية: فعدم رغبتنا في حماية الشيعة من مجزرة صدام الانتقامية بعد الانتفاضة في العام 1991؛ وفرض عقد من العقوبات التي أفضت إلى موت عشرات الآلاف من الأطفال العراقيين، كل ذلك دمر الطبقة الوسطى وعزز من قبضة النظام على المجتمع.
إننا إذا استخلصنا الدروس الصحيحة من العراق، فسنطور تناغماً أفضل بين مصالحنا القومية وقدراتنا الحقيقية. أما إذا لم نفعل، فسنتجه تماماً إلى وضع افتراضات خاطئة عندما ندرس كيفية الاستجابة لحالة الاضطراب وفقدان الاستقرار المتزايد في الشرق الأوسط.
(الغارديان) ترجمة: عبد الرحمن الحسيني- الغد الاردنية .
*نشر هذا المقال بعنوان:
Iraq war: six lessons we still need to learn
abdrahaman.alhuseini@alghad.jo