رام الله- الحياة الجديدة- عزيزة ظاهر – ما زالت ذاكرة الحاج أحمد أبو سريس (86 عاما) تكتظ بصور قريته التي كانت وادعة هادئة، البساتين والشوارع والمنازل والخضرة وينابيع المياه، كل شيء تحول فجأة إلى كارثة على أيدي العصابات الصهيونية، التي بدأت ترتكب مجزرة تلو أخرى، واقع مؤلم آنذاك اضطر الأهالي للرحيل القسري عن بلدتهم “الكفرين” الواقعة على بعد 30 كم جنوبي شرقي مدينة حيفا.
الحاج “أبو سريس” يكبر النكبة بـ 12عاما، قضاها في مسقط رأسه يتذكرها عن ظهر قلب، يقول لـ “الحياة الجديدة”: كل شيء من رائحة البلاد محفور بذاكرتي ولم أنس شيئا منها، مسجد القرية ومقاماتها الدينية، وينابيع المياه التي تنتشر في كل أرجاء القرية، وما زلت أذكر جيدا الأستاذ المرحوم نعيم دروزة ابن مدينة نابلس، وكان يدرسنا كل المواد في مدرسة البلدة الوحيدة التي أسست في العهد العثماني حتى الصف الرابع.
لم يخطر ببال العائلة أن الغيبة ستطول، ظنوا أنهم سيقضون يوما خارج البلدة أو يومين على أبعد تقدير، فسارعوا لدفن مونة البيت من قمح وذرة وأرز وسمسم وزيت في حفرة خلف البيت، وفي التفاصيل يروي “أبو عمر”: “في أوائل شهر نيسان/أبريل عام 1948 تعرضت القرية لهجوم من عصابات الهاغاناه الصهيونية، واستشهد صالح قاسم خليل، وفي اليوم الثاني عشر من الشهر ذاته، دمرت البلدة بالكامل بعد نسف بيوتها التي بلغت في حينه 95 منزلا، تركنا كل شيء وخرجنا مشيا على الأقدام حتى وصلنا قرية أم الفحم، وكانت النكبة الثانية بعد مرور عام بسقوط قرى المثلث ومن بينها أم الفحم في يد الاحتلال، فانتقلنا إلى قرية رمانة القريبة وأمضينا فيها عاما واحدا، إلى أن استقر بنا المطاف منذ عام 1950 في مخيم الفارعة للاجئين.
يصمت أبو سريس برهة من الزمن، وبعد تنهيدة حزينة يتابع، أزقة المخيمات الضيقة، والبيوت المتراصة، وضجيج وصخب السكان والمارة، كفيلة أن تجعلك تتخيل مرارة 74 عاما عاشها الفلسطيني المشرد من أرضه منذ نكبة عام 1948، فلا وجه للمقارنة بين حياتنا في بيوت متراصة لا تدخلها شمس ولا هواء، وقد أكلت جدرانها الرطوبة، وبين حياتنا في بلدة الكفرين في بيت كبير له فناء واسع تحيط به البساتين وينابيع المياه من جميع الاتجاهات.
أبو عمر الذي عمل مدرسا حتى بلوغه سن التقاعد في مدارس “الأونروا”، كان يواظب دوما على ترسيخ فكرة حق العودة في عقول أبنائه الطلبة وأحفاده، كثابت من الثوابت الوطنية، وأنه لا عودة عن حق العودة، وعدم التفريط في ذرة تراب واحدة من أرض الآباء والأجداد حتى تحرير فلسطين من بحرها لنهرها.
اللاجئ الثمانيني أحمد أبو سريس، واحد من نحو 6 ملايين لاجئ فلسطيني في مخيمات تمتد في فلسطين وخارجها، وظل حلم العودة يطارد ذاكرتهم وما زال، فهم خسروا وطنا ويعيشون حياة مؤقتة بذكريات بدأت تهرم وتضيع بفعل الزمن وحقائق الموت والحياة.