«الموضوع بسيط، أوقفوا قتل الناس، لا تقتلوا الناس، توقفوا».
كانت تلك كلمات قاطعة تطلب وقف الحرب على غزة نشرتها صحيفة الـ»نيويورك تايمز» على لسان فتاة يهودية غاضبة.
استلفت نظر الصحيفة الأميركية، واسعة الانتشار والتأثير، الانقسام الجيلي الحاد داخل الأسرة اليهودية الواحدة.
أجرت تحقيقاً حاولت فيه أن تلمّ بطبيعة وحدود ذلك التصدع وتداعياته المحتملة.
«يبدو أنه أبسط مطلب»، هكذا تضيف الفتاة، «لكن رد أمي دائماً أن الأمر ليس بمثل هذه البساطة».
من وجهة نظر رب العائلة، كما تروي الصحيفة الأميركية: «جوديث وأنا نتحدث دوماً.. ألم نعلّم أبناءنا ما يكفي عن معاداة السامية والهولوكوست». إنه صدام بين جيلين على خلفية حرب غزة.
أولهما – تستغرقه سردية العداء للسامية والهولوكوست، وما أنتجته «هوليوود» من أفلام عن عذابات المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية، وأن ذلك يسوّغ لإسرائيل ارتكاب كل الجرائم دون حساب.
وثانيهما – ينظر في الهولوكوست الفلسطيني الماثل، ويرى أن لا شيء يبرر ما يتعرض له أهل غزة من أهوال وبشاعات غير قابلة للتصديق أن تحدث في عصرنا بذريعة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». إنها أزمة ضمير في قلب المجتمع اليهودي الأميركي، كما لم تحدث من قبل.
كانت تلك أول حرب في التاريخ المعاصر تتجاوز مشاهدها الإعلام التقليدي وآليات السيطرة عليه.
إثر ثورة المعلومات والاتصالات، ونقل الصور عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لم يكن ممكناً حجب الحقيقة، أو منع أزمات الضمير.
نشأت موجات غضب وتظاهرات احتجاج لم تكن متخيلة في أوساط الأجيال الجديدة تكاد تشبه في أحجامها ورسائلها وتداعياتها احتجاجات ستينيات القرن الماضي ضد التورط الأميركي في الحرب الفيتنامية.
لم يكن العرب طرفاً من قريب أو بعيد بما حاق باليهود على يد النازي في الحرب العالمية الثانية، لكنهم دفعوا فواتير دم باهظة على يد النازيين الجدد.
كان ذلك خطاباً عربياً معتاداً، يخاطبون به أنفسهم.
الآن يطرح الخطاب نفسه داخل المجتمع اليهودي الأميركي.
لسنوات طويلة ارتفع صوت عالم اللغويات الأشهر نعوم تشومسكي، داعماً للقضية الفلسطينية.
لم نلتفت بما يكفي إلى عمق تأثير ذلك المفكر اليساري اليهودي، الذي ربطته صداقة عميقة مع المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، على الأجيال الجديدة.
إنه الأب الروحي لجماعة «أصوات يهودية»، التي برزت في تظاهرات واحتجاجات المدن الأميركية الكبرى، وشلّت الحركة قبل أيام على الطرق السريعة في لوس أنجلوس.
في الأيام الأولى للحرب، حاولت تلك الجماعة اقتحام مبنى الكونغرس لكي تقول: «ليس باسمنا».
باطراد صرخات الضمير وتظاهرات الاحتجاج باتساع العالم كله تغيرت حسابات ومواقف دول، ووجد الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه في مأزق سياسي يصعب الخروج منه.
صورته تآكلت إثر إخفاقه في إدارة حربَي أوكرانيا وغزة، وفرصه تقلصت في تجديد ولايته الرئاسية بانتخابات 2024.
الأفدح ما تتعرض له الولايات المتحدة الآن من عزلة دولية غير مسبوقة منذ صعودها إثر الحرب العالمية الثانية إلى منصة القوة العظمى الأولى في العالم.
صوّتت وحدها ضد قرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، وأجهضته بحق النقض.
ثم لحقت بها هزيمة دبلوماسية تؤشر على التراجع الفادح في مكانتها الدولية، بالتصويت على القرار نفسه بما يشبه الإجماع بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
إثر الاحتجاجات الصاخبة في عواصم بلدانهم ضد حرب الإبادة في غزة، تغيرت مواقف الحلفاء بدرجات مختلفة في مستويات دعم إسرائيل.
حسابات الضمير في الشوارع كادت تغلب حسابات المصالح في القصور.
هكذا أحكم المأزق على إدارة بايدن، الحرب مكلفة أخلاقياً وإستراتيجياً، والقصف العشوائي يقتل ويدمر دون أن تكون هناك رؤية لما بعدها، حسب وصفه!
لتخفيف وطأة الأزمة على بلاده حاول إحداث تعديلات على إدارة الحرب، كأن يكون هناك جدول زمني لإيقافها في غضون أسابيع وليس خلال أشهر – كما صرح وزير خارجيته أنتوني بلينكن.
بمترادفات سياسية دعت إدارة بايدن إلى تخفيض درجة العشوائية في القصف الإسرائيلي، أو درجة الحدة، أو أن تكون الهجمات أكثر دقة! بتعبير مستشار الأمن القومى الأميركي جاك سوليفان كمفهوم مستحدث لـ»حماية المدنيين»!!
انتقد الرئيس الأميركي الأداء الإسرائيلي قائلاً في اجتماع انتخابي مغلق: إن الدعم الدولي أخذ في التراجع.
كما دعا نتنياهو إلى إدخال تعديلات على التشكيل الحكومي الإسرائيلي، مشيراً إلى «إيتمار بن غفير» بالاسم.
لماذا «بن غفير» بالذات؟
لأنه بموقعه وزيراً للأمن القومي يتحمل المسؤولية الأولى عن تصاعد اقتحامات المستوطنين في الضفة الغربية، كأنه يصب مزيداً من الزيت على النيران المشتعلة في غزة، فيما تسعى الولايات المتحدة لعدم فتح جبهات جديدة.
لم يكن ممكناً أن يتقبل نتنياهو اقتراح بايدن، إذ إن حكومته تعتمد في وجودها على اليمين المتطرف، إذا انقلب عليه يطاح به في أقرب وقت ممكن، وربما محاكمته وإيداعه السجن!
لا يمانع بايدن في تمديد الحرب حتى تنتهي من تحقيق أهدافها الرئيسة في تقويض «حماس» وعودة الرهائن وتغيير معادلة السلطة في غزة، لكن لا توجد حتى الآن علامة نصر واحدة.
التباينات السياسية مشروع صدامات محتملة بعد وقت أو آخر.
الإدارة الأميركية تناهض إعادة احتلال غزة من جديد، أو تقليص مساحتها، أو إنشاء مناطق عازلة، فيما نتنياهو يرفض بصورة مطلقة «حل الدولتين»، أو عودة السلطة إلى غزة بصيغة سياسية «متجددة»، ولا توافق على التهجير القسري خشية خسارة حلفائها في المنطقة.
ليست هناك خلافات جوهرية بين إدارة بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو بشأن الحرب وإمداد السلاح، لكن لا توجد في الوقت نفسه أي آفاق سياسية مشتركة لما بعد الحرب.
يكاد تصريح وزير الجيش الإسرائيلي، يوآف غالانت، يلخص تعقيدات الموقف: «مستمرون في الحرب، لكننا لا نستغني عن الدعم الأميركي».
في الخطاب المعلن تراجع الأميركيون خطوة للخلف: «لا نفرض على إسرائيل شيئاً!»، لكنهم لم يكفوا عن الضغط في الغرف المغلقة.
هكذا أعيد طرح الهدن الإنسانية المؤقتة وصفقات تبادل الرهائن والأسرى من جديد. ورقة الرهائن أهم ما تملكه المقاومة المسلحة لوقف الحرب، والقرار قد يتعلق به مصيرها.
في جميع السيناريوهات والاحتمالات، فإن قوة الضمير الإنساني، باحتجاجاته وضغوطه، هو العامل الأكثر تأثيراً الآن على مراكز صنع القرار.
ســـؤال الضــمــير! .. بقلم :عبد الله السناوي
