نزوح بعض الفلسطينيين جاء بسبب شدة الاستهداف وليس خوفا من المنشورات الإسرائيلية (أشرف عمرة ـ آي بي ايه)
هي المحاولة الأخيرة التي تسعى من خلالها إسرائيل إلى النزول عن شجرة العدوان التي تسلّقتها، بسلّم أميركي. وساطة جدّد جون كيري عرضها أمس على بنيامين نتنياهو، مرفقة بتحرك أوروبي، وأحاديث عن محاولات إقليمية تتهيأ لها تركيا وقطر ومصر. الهدف يبدو واضحاً: تجنيب جيش الاحتلال مغامرة بريّة، الكل مقتنع بأن تكلفتها ستكون كبيرة، في ظل تصعيد صاروخي من المقاومة، شمل إسرائيل كلها، وبلغ مدينة نهاريا القريبة من الحدود اللبنانية. مستوى عالٍ من الأداء، أربك جهات عديدة في الدولة العبرية بدأت التعبير، عبر وسائل الإعلام، عن مستوى من النقد والدعوات إلى وساطة تنهي الأزمة التي تشكل الكيان. بل سمح للمقاومة برفع سقف شروطها لإعادة العمل بالتهدئة. شروط يتصدرها وقف العدوان ورفع الحصار وحق الرد على أي عدوان لاحق وفتح معبر رفح بشكل دائم وحل معضلة تدفق الأموال إلى غزة
من تجنب العملية البرية في 2012 هو بنيامين نتنياهو نفسه الذي يرأس الحكومة الإسرائيلية هذه الأيام في حربها الثانية على غزة. في ذلك اليوم، اشتم الإسرائيليون رائحة الكورنيت في غزة بعدما استخدمت المقاومة (تحديداً سرايا القدس، «الجهاد الإسلامي») هذا الصاروخ في غير مهمته (مضاد للدروع) مستهدفة منزلاً في مستوطنة شمال القطاع، ما أدى إلى مقتل اثنين، وفي المحصلة تم الاستغناء عن فكرة الدخول والاشتباك المباشر.
اليوم، لا يحتاج أحد ليؤكد للجيش الإسرائيلي أن «الكورنيت» موجود في غزة «بوفرة» بعدما استخدمته كتائب القسام («حماس») قبل يومين، وأمس عادت السرايا لتنشر مقطع فيديو أظهر استهداف جيب إسرائيلي بالسلاح نفسه على حدود رفح (جنوب القطاع).
الواقع الجديد لتطور سلاح المقاومة فرض على الإسرائيلي حالة التأني قبل إعلانه أي عملية برية، مع أن حشوده جاهزة على تخوم القطاع. هذا في أول يومين للحرب. لكن رسائل أمس وما قبله في الاشتباك البحري المباشر ضد تسلل وحدات من القوات الإسرائيلية الخاصة على بحر الشمال (منطقة السودانية)، كلها قدمت إشارات واضحة لنتنياهو حتى لا يغامر بمستقبله السياسي في معركة بات واضحاً أن تكلفتها ستكون كبيرة.
لأول مرة تصل
صواريخ المقاومة
من غزة إلى مدينتي
نهاريا ونتانيا
عدد الشهداء
حتى منتصف الليل 166 والمصابون 1092
لكن، كيف يمكن النزول عن السلّم؟ علماً بأن المطالب الإسرائيلية هذه المرة أكثر تواضعاً لجهة أنها لم تطلب كالسابق «إنهاء حكم حماس»، بل الاكتفاء بـ«منع إطلاق الصواريخ»، وإن شطحت بعض المصادر العبرية لتنثر حديثاً عن تعهد عربي بالضغط على المقاومة لإلقاء سلاحها ووقف تصنيع الصواريخ، في مقابل مليارات الدولارات للتنمية في غزة ضمن هدنة طويلة المدى.
كل هذا البيض المتناثر، دعا وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى تجميعه في سلة واحدة، وخاصة أن إدارته أبدت موافقتها على «خطوات إسرائيل في الدفاع عن نفسها» بشرط أن تؤتي هذه الخطوات ثمارها، وألا تصل مساعي الجيش الإسرائيلي إلى إخفاق يصعّب على الأميركي إنقاذ حليفه.
من هنا، جدد كيري عرض رئيسه، باراك أوباما، الوساطة، وذلك خلال اتصاله بنتنياهو أمس، ما دعا المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت الإسرائيلي) إلى الاجتماع لبحث «الدعوات الدولية إلى التهدئة». وأفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن «الكابينيت» اجتمع لبحث الحرب على غزة، مع أن القصف المكثف الذي يشنه الطيران الحربي لا يزال متواصلاً وخاصة على المناطق التي أخلاها السكان شمال القطاع بعد إلقاء مناشير واضحة تهدد بمحو المنطقة. لكن الإذاعة أشارت إلى أن الهجوم بالقذائف الصاروخية الكثيف الذي شنته المقاومة أمس يشير إلى أنها «لا تتجه إلى التهدئة على عكس التوجه الدولي».
كيري أكد لنتنياهو، خلال الاتصال، أن بلاده على استعداد للعمل في دور الوساطة والتوصل إلى وقف لإطلاق النار بموجب التفاهمات التي أعقبت عدوان عام 2012. ومع أنه «استنكر استمرار إطلاق الصواريخ من غزة وأوضح أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، فإنه طلب من نتنياهو «الامتناع عن التصعيد»، مع الإشارة إلى أن الوزير الأميركي اجتمع أمس مع وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا في فيينا لبحث القضية النووية الإيرانية، لكنهم تطرقوا على هامش الاجتماع إلى غزة.
ولم تحمل واشنطن سلم التهدئة وحدها، بل برزت تصريحات أوروبية داعمة لهذا الاتجاه، منها قول وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، إن التوصل إلى وقف لإطلاق النار يقف على رأس سلّم أولويات باريس، كما أطلق وزير الخارجية البريطاني دعوة مماثلة، في حين أنه يتوقع أن يصل إلى تل أبيب هذا الأسبوع وزراء خارجية ألمانيا وإيطاليا للغرض نفسه.
هذا الحشد الدولي لا يأتي، كما هو واضح، لإنقاذ الطرف الفلسطيني من النار الإسرائيلية التي فتكت بـ 166 شهيداً وما يزيد على 1092 إصابة حتى منتصف الليل، بل في سياق إنقاذ إسرائيل من الورطة التي وصلت إليها «والفضيحة الكبرى المنتظرة بعد الإخفاق الذريع على المستويين الاستخباري والاستراتيجي»، وفق توصيف الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، رمضان شلح، في خطابه المتلفز أمس.
وقال شلح، بالتزامن مع إدخال المقاومة مدناً محتلة جديدة تحت إطار النار، إن «الاحتلال عاجز عن تحقيق أي من أهدافه في العدوان المتواصل». وأضاف، في مقابلة مع قناة «الجزيرة»، إن «الاحتلال يذهب في عدوانه إلى اللاهدف بعدما حاول تصدير أزماته الداخلية، وإذا به يأتي بصواريخ المقاومة إلى تل أبيب وما بعدها».
في مقابل حديث كيري عن اتفاق التهدئة السابق كإطار للوساطة المقبلة، شدد شلح على أن «معادلة تهدئة مقابل تهدئة وفق اتفاق عام 2012 انتهت، ولن تقف الحرب الجارية دون رفع الحصار عن غزة وفتح المعابر وتأكيد الحق الفلسطيني في الرد على أي عدوان إسرائيلي لاحق»، وهي الشروط نفسها التي ذكرها النائب في المجلس التشريعي عن كتلة «حماس» البرلمانية، مشير المصري في سياق حديث إلى «الأخبار»، ما يظهر جلياً وجود تنسيق وتوافق بين الحركتين بالنسبة إلى شروط التهدئة.
على مستوى الوساطة، نفى شلح وجود «وسيط جدي»، لكنه ذكر في الوقت نفسه أن «الوسيط الذي يستطيع لجم إسرائيل هو شريكتها في العدوان، أي الإدارة الأميركية التي تدافع عن حق الاحتلال في الدفاع عن نفسه»، مناشداً مصر أخذ دورها في الدفاع عن الفلسطينيين.
وبينما استمرت سياسة قصف المنازل بصورة عنيفة، وخاصة بعد مجزرة تعرضت لها عائلة البطش شرق مدينة غزة وأودت بحياة 18 من أفرادها، واصلت المقاومة إطلاقها الصواريخ بالمعدل نفسه لليوم السادس على التوالي (نحو 150 صاروخاً في اليوم). كذلك هي وسّعت دائرة النار لتدخل فيها مدينة نهاريا القريبة من الحدود اللبنانية، وتبعد حوالى 170 كم عن القطاع، وهي المرة الأولى التي تستطيع فيها المقاومة في غزة إيصال صواريخها إلى هذا المدى. ودوت أمس صفارات الإنذار في جميع مدن الساحل الفلسطيني من عسقلان جنوباً حتى نهاريا في الجليل الأعلى، كما جددت المقاومة قصف مدن أسدود والخضيرة وتل أبيب، فيما أعلنت سرايا القدس أنها قصفت نتانيا لأول مرة بصاروخ «براق 100».
(الأخبار)