يستغرق البحث في القراءة عمّا يميل إليه الشخص فعلاً الوقت نفسه الذي يستغرقه في اكتشاف ذاته. فعلان يتقدمان بالتوازي مع بعضهما البعض، القراءة تدلّ على الميل والميل يدلّ على ما نرغب بقراءته.
تبدأ الحكاية منذ اللحظة التي تبدأ المشاهد المحيطة تعلق في الذهن، حين يكون الشخص صغيراً يراقب العالم من حوله. أجمع عدد من الشغوفين بالقراءة أنّهم اكتسبوا حبهم لها من بيتهم وعائلتهم. ومنهم مَن غرق فيها لاحقاً عن طريق الصدفة أو بسبب الدراسة. يبدأ الشخص في أولى مراحل تشكل وعيه بالسعي نحو الثقافة التي “يفرض” المحيط مفاهيمها وشكلها أحياناً. فتجد عدداً كبيراً من الشباب الذين يقصدون معرض الكتاب يشترون كتباً من “ما هبّ ودبّ” بغرض الثقافة. كيف بدأت قصص بعض الشباب مع القراءة؟ وكيف ساعدتهم على تحديد ما يميلون إليه، وبالتالي صناعة ثقافتهم في الإطار المعرفي الذي يرغبونه؟
لم تكن فاطمة فرحات تحبّ القراءة في صغرها، خصوصاً القصص التي كانت المدرسة تلزمهم بها، “مع العلم أن لدينا مكتبة ضخمة في البيت، وكنا نذهب بصحبة والدي إلى معرض الكتاب أو إلى المكتبات لشراء الكتب”. كانت اختياراتها في البداية تقع على الكتب الصوريّة، وإذا تعذّر عليها الأمر كانت تشتري قصصاً لتصنع صورها ومشهدياتها في خيالها. “أذكر مرة كنت في سن الـ12، وقع نظري على كتاب في البيت للكاتب الإسرائيلي إسرائيل شاحاك بعنوان التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية: وطأة ثلاثة آلآف سنة. قرأته وتكوّنت لديّ صدمة معرفيّة ونهم غير مسبوق على القراءة بسببه. بدأت بتدوين الأفكار والمصطلحات الصعبة لأستفسر عنها من أهلي. بعدها حين صرتُ أقصد معرض الكتاب، صرتُ أشتري الكتب المتعلقة بالأفكار الواردة في كتاب شاحاك، بعدما أكون قد ادّخرت مالاً من مصروفي اليومي. وأذكر أولى الكتب التي اشتريتها كانت كرة الثلج لشيمون شفير وجواسيس في الرمال لجوردان توماس وكتاب عن أسماء القرى الفلسطينية وكيف تبدّلت ودمجت”.
صارت القراءة بالنسبة إلى فاطمة أسلوب حياة، تلجأ إليها حتى في أوقات الضغط. وصارت تتركّز قراءاتها تباعاً على السياسة والاجتماع والاقتصاد، بعدما تخصّصت في الجامعة في التجارة والمالية، واكتسبت الشغف في هذا الاختصاص من خلال خلفيتها المعرفية عن أن اليهود اشتغلوا على مبدأ الاقتصاد والاجتماع في فهمهم للاستعمار. وتخصصت أيضاً في مجال ثانٍ هو التصميم الغرافيكي، وصارت تقرأ أيضاً في مجال الفنون البصرية والآثار والتصميم. “ولا أجد متنفساً من هذا كله سوى في قراءة الروايات”.
تتباين البدايات بين فاطمة ومحمد مهدي عيسى. بدأ الاهتمام بالقراءة لدى محمد منذ سن الـ11. نمت رغبته بها من خلال العائلة، حيث كانت الأخيرة على تماس مع الحراك الإسلامي، وكان لديهم مكتبة في البيت تحتوي بغالبيتها على كتب إسلامية. كان يقرأ كتباً تتجاوز سنّه ولم يكن يقصد قسم الأطفال في مكتبة المدرسة أو في المكتبات العامة، إنّما كان يبحث في كتب “الكبار”. “كنت مهتماً في صغري بالكتب الدينية والروايات لكن مع الوقت تشعّبت اهتماماتي المعرفية وصرت أقرأ كتباً فكرية واجتماعية وسياسية بشكل أكبر من الكتب الدينية، خصوصاً بعد دخولي الجامعة، حيث درست الإعلام وعلم الاجتماع”. لكن محمد يلفت إلى أنه “لا يجب أن نثق كثيراً بالكتب، أو أن نتعاطى معها على أنّها شيء مقدّس، فالكتاب هو كلام يحمل الصدق ويحمل الكذب. القراءة مسؤولية وعمل تأسيسي لأي حركة معرفية. المبدعون لا يتعاطون مع النص إلّا كحقل هم معنيون بزراعته، لا كحصاد عليهم استهلاكه. الكتاب الجيد هو الكتاب الذي يقدم مفاتيح معرفية تكون سبباً لرؤية مغايرة للظواهر وللحياة، وكل كتاب لا ينجح في ذلك هو كتاب غير ناضج”.
في المقابل، لجأت فاطمة خليفة إلى قراءة روايات إحسان عبد القدوس في صغرها سراً، حين كانت أمها تمنعها عنها لأنها تحتوي أشياء “عيب”. حينها انتبهت فاطمة إلى رغبتها في القراءة حين كانت تجد متعة في هذه المطالعة في الخفاء، وحين كانت تلجأ إلى الكتب القديمة الموجودة في البيت. “بالإضافة إلى أن والدي كان يشتري مجلة “بيّنات” الصادرة عن مكتب السيد محمد حسين فضل الله بشكل دائم، فصرت أتصفحها وكنت أحبّ الصفحة الأخيرة فيها حيث تُنشر شذرات فكرية وعرفانية، صار والدي يقصّ هذه المقالة من المجلّة من أجلي”. بعدها صارت فاطمة تختار نصوصاً تحبها في كتب اللغة العربية في المدرسة لتقرأها. لكن مع الوقت، وبعد دخولها إلى الجامعة، اكتشفت شغفها لقراءة الروايات، حين كانت تستعيرها من رفاقها وتعيرهم ما لديها. وتقول: “لا شيء يعوّض أوقات فراغي كالقراءة. اكتسبت هذه الرغبة من بيتنا، حين كبرت على فكرة أن هناك ساعتين يستقطعها والدي من نهاره ليقرأ”. غرق فاطمة في الروايات راكم لديها خبرة شخصية في انتقاء ما يشبهها.
استهوتها الروايات الفلسفية والسياسية كثيراً، لكنّها لا تقصد شراء كتاب فلسفي مثلاً. “أجد في الرواية ملاذاً ممتعاً وليس جافاً كما في الكتب الفكرية. بعدها صرت أقرأ نبذة عن أي كتاب قبل شرائه حتى لا أشتريه وأتركه مرمياً على الرفّ”.
يحكي حسن إسماعيل عن أمه حين كانت تشتري له ولأخوته قصصاً من معرض الكتاب، حتى صار الأخير مناسبة سنوية ينتظرها. “في أيام طفولتي كان المردود المادي للعائلة زهيداً جداً، فكانت أمي توفّر من مصروف البيت لتدّخر بعض المال من أجل شراء الكتب. هذا الأمر كان مقدساً بالنسبة لوالديّ”. كان حسن يميل في البداية إلى القصص والكتب العلمية، وخصوصاً الموسوعات، لكنه يقول إنّ سعرها كان باهظاً. “أذكر في سنة من السنوات قدّم جناح مجلة علم وعالم عرض اشتراك سنوي بالمجلة بقيمة 36 ألف ليرة، مع ذلك كان المبلغ باهظاً بالنسبة إليّ، لكن الصدفة كانت لصالحي، حيث كان يتزامن سنوياً يوم مولدي مع موعد معرض الكتاب. كنت أخبّئ المال الذي يعطونني إياه أهلي لأشتري به الكتب”. مع مرور الوقت راكم خبرة معرفية حول أسماء الكتّاب الجيّدين ودور النشر المهمّة، حتى تحدّدت تباعاً خياراته المفضّلة في مضامين الكتب. فصار يقصد شراء كتب التاريخ والأدب (الروسي تحديداً). “برأيي تكوين الثقافة أمر صعب جداً ويحتاج إلى إرادة هائلة، لأنه قد يضطر الشخص أحياناً أن يغصب نفسه على قراءة كتب لا يحبّها حتى يصل إلى فكرة ما أو معلومة أو حتى رأي، وخصوصاً في الكتب الفكرية والفلسفية التي تحتاج مطالعتها إلى جهد كبير. وبالنسبة إليّ، لا أشتري هذه الكتب إلا إذا قصدت التعمّق في موضوع معيّن وذلك بسبب ضيق الوقت والأولويات”.
السفير
شباب يروون حكاياتهم مع القراءة

Leave a comment