تتنازع الساحة الفلسطينية مواقف متعددة ومتعارضة حول حرب الإبادة الإسرائيلية، مواقف تحتاج إلى أوسع مشاركة هدفها تبيان ودعم المصلحة العليا للشعب الفلسطيني كناظم للقرار الفلسطيني. ثمة حاجة إلى جدل بعيدا عن ثنائيات الرفض المطلق والقبول المطلق، وثنائية التشكيك والتقديس، التفويض الأعمى، وسحب التفويض، نحتاج إلى أوسع مشاركة في لحظة يُطرح فيها تقرير المصير الفلسطيني على جدول من يقودون حرب الإبادة ومشاريع تصفية واحتواء ووصاية ووعود بلا رصيد.
في هذا الوضع المفصلي، لا يعقل البقاء في حالة انتظار ما سيتمخض عن الحرب من نتائج إيجابية أو سلبية. المشاركة في تقرير المصير، والتدخل البناء أثناء الاحتدام مسؤولية معني بها كل فلسطيني. فلا تتقرر نتائج الحرب في الميدان فقط وإنما تتقرر أيضا في بحث وتدقيق السياسات والمواقف من قبل النخب السياسية والثقافية والأكاديمية وعرض أفكار ومقترحات التصويب على قيادة المقاومة وعلى المجتمع. ما يحفز على الجدل والتدخل أننا نشهد جدلا مثمرا ومفيدا حول الحرب وتأثيراتها داخل الجامعات وفي أوساط النخب في أوروبا وأميركا وكندا وسائر دول العالم، وداخل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية وسائر المؤسسات الدولية، ووجه الغرابة أننا لا نحاكي مثل هذا التفاعل في أوساط النخب ولا الجامعات.
وصف أبو عبيدة الناطق باسم حركة حماس الاستراتيجية الإسرائيلية باعتبارها استراتيجية ترويع وإجرام وتدمير ممنهج وحرب إبادة جماعية وحرق الأخضر واليابس، وأن المقاومة والشعب يخوضان حربا غير متكافئة، ورغم ذلك فإن العدو يتخبط ويفشل، واكد على قدرة المقاومة على الصمود والقتال وخوض معركة استنزاف طويلة مهما طال العدوان.
لكن عضو المكتب السياسي لحركة حماس ورئيسه السابق خالد مشعل له رأي آخر حين قال: «نحن أمام لحظة تاريخية وفرصة لهزيمة اسرائيل وتفكيك المشروع الصهيوني، وأن العدو يتقهقر ويفقد ثقته بنفسه بعد مرور ثمانية أشهر على المعركة». وطالب جماهير الأمة بالتعبير المتواصل عن غضبها في شكل طوفان يحاصر السفارات الأميركية والصهيونية لوقف العدوان وتشكيل جبهة سياسية عريضة تواجه الصهيونية والإدارة الأميركية.
وتناقلت وسائل إعلام ما يسمى «معطيات قدمتها قيادة المقاومة من داخل قطاع غزة إلى القيادة السياسية، حددت فيها الأولوية الاستراتيجية وهي وقف العدوان بثمن سياسي يليق بتضحيات الحاضنة الاجتماعية للمقاومة. تحدثت المعطيات عن توفر الذخيرة التي لا تزال ورش التصنيع العسكري تنتجها وهي بكامل طاقتها ولديها القدرة على الاستمرار لسنوات وليس لأشهر. وخلصت إلى أن القوى البشرية للمقاومة لا تزال متعافية وخسائرها أقل بكثير مما يردده العدو».
ما سبق، يستعرض عناصر القوة الفلسطينية: المقاومة قادرة على الصمود، وبخاصة بعد أن غيرت تكتيكها إلى حرب عصابات تلحق خسائر فادحة بالمحتلين، وتعمق الشروخ في المؤسسة الإسرائيلية السياسية والأمنية. وتملك المقاومة ورقة الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين لديها وهذه تساهم في ممارسة ضغوط داخلية إسرائيلية على حكومة الحرب. وعنصر القوة الأهم هو التضحيات الهائلة لـ 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة. أما تحولات الرأي العام العالمي ضد اسرائيل فقد بدأت تمارس ضغوطا على الدول الداعمة للعدوان وبخاصة الإدارة الأميركية. بجانب ضغوط من قبل المؤسسات الدولية وبخاصة محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدوليتين. هذه التحولات والضغوط تعزز فعلا عناصر القوة الفلسطينية. وبالمحصلة تقول هذه الوجهة: تستطيع المقاومة فرض شروط بمستويين: الأول، تكتيكي كوقف الحرب وانسحاب قوات الاحتلال والإفراج عن الأسرى، وإدخال المساعدات الإنسانية والطبية، والشروع في إعادة الإعمار بدءا بإعادة بناء وترميم المستشفيات والمدارس، وهي المطالب التي قدمتها المقاومة في مفاوضات الدوحة والقاهرة. وربما تحقيق شرط آخر غير معلن مُضَمّن في الشروط السابقة هو بقاء حكم «حماس» في قطاع غزة، والتعامل مع هذه الحرب كسابقاتها بإعلان هدنة جديدة قد تكون أطول زمنا. والمستوى الثاني الذي يمكن للمقاومة تحقيقه يعد استراتيجيا ويتلخص باستجابة النظام الدولي والإقليمي لحل سياسي يُنهي احتلال 67 ويمكن الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة. لكن هذا الصراع اكثر تعقيدا من رؤية انتصار أو هزيمة، كنتيجة مباشرة. طريق الانتصار طويل ومتعرج وبطيء ويأتي بالنقاط المتراكمة وعبر تضافر العوامل الداخلية والخارجية. والهزيمة بالنسبة لأي شعب لا تكون نهائية، وربما تكون عابرة ومؤقتة، الأهم هو كيف نحقق الإنجاز ونتفادى الهزيمة والخسائر الفادحة، كيف نستمر؟.
صورة اسرائيل، اليوم، مناقضة للصورة التي أسهبت فيها الدعاية الغربية والصهيونية، وقدمت إسرائيل كبلد ديمقراطي وحيد في المنطقة ينتمي لمنظومة العالم الحر وقيمه. متجاهلة كون اسرائيل نظام «أبارتهايد» استعماريا يسيطر على شعب بالقوة ويعمل على تفكيكه واضطهاده. بدأت صورة اسرائيل تتغير لدى أجيال جديدة لم تعد تصدق الرواية، وبدأت تؤسس لرواية أخرى وضعت اسرائيل في مكانها الاستعماري العنصري، في الوقت الذي تستمر فيه الدول النافذة في الغرب الدفاع عن إسرائيل وتساعد في إفلاتها من المساءلة والعقاب. وترهن أي حل للصراع بموافقتها، علما أنها ترفض كل الحلول وكل القرارات وكل المواثيق الدولية ولا تعترف باحتلالها للأرض الفلسطينية. التقدم الناجم عن الحراكات المجتمعية يحتاج إلى وقت أطول لفرض المزيد من التراجعات، وللأسف لا يستطيع وقف حرب الإبادة بشروط المقاومة.
لم تعد اسرائيل قادرة على اعتماد الحرب الخاطفة الساحقة على غرار حرب 67، وهي مضطرة إلى حرب طويلة مكلفة لتحقيق أهدافها ولا تتورع عن شن حرب إبادة وأرض محروقة كبديل عن الحرب الخاطفة. كما نرى من اجل السيطرة على قطاع غزة فإنها تقوم بتدمير المكان والبنية والمجتمع وتحويله إلى مكان غير قابل للعيش واضعة أساسا ماديا لتهجير مواطنيه. الشيء نفسه ينطبق على لبنان فمن اجل كسب المعركة مع «حزب الله» تهدد إسرائيل بتدمير لبنان ببنيته التحتية واقتصاده إضافة إلى قتل وإصابة وتشريد أعداد ضخمة من مواطنيه. كيف يمكن التعاطي مع عقيدة حرب الإبادة والتدمير الإسرائيلية التي تستهدف السواد الأعظم من الناس وتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق.؟ من المنطقي اتباع عقيدة نقيضة تتلخص في حماية وصون المجتمع الفلسطيني، والحيلولة دون تمكين آلة الحرب من إضعافه وتفكيكه وإذلاله. لا يمكن فصل مقاومة الاحتلال وإلحاق خسائر به وانتزاع المكتسبات بمعزل عن مناعة المجتمع التي يسعى المعتدون إلى سحقها. إن تكتيك إعادة نشر مجموعات المقاومة وإدارات السلطة في المناطق التي انسحبت منها قوات الاحتلال، حيث بدأ المواطنون العودة إلى البيوت التي لم تدمر أو نصف مدمرة. يحتاج إلى إعادة نظر، وخاصة بعد أن قام الاحتلال بتدمير تلك المناطق وقتل وإعادة تشريد العائدين إليها… وللحديث بقية.
شركاء في المصير شركاء في القرار الكاتب: مهند عبد الحميد
