ما ان وضعت حرب غزة الثانية أوزارها حتى انتابت الفلسطينيين في قطاع غزة حمى مزدوجة: فرحة بإنجاز تحقق تمثل في انتهاء الحرب وأنها للمرة الأولى وحّدت الفلسطينيين، وتساؤلات حول الثمن السياسي المحتمل دفعه على مستوى القضية. والحقيقة أن احتفال النصر في غزة كان حقيقياً عبّر عن مشاعر الغالبية الساحقة من الفلسطينيين، وأظهر الفارق بينه وبين ما حدث في حرب غزة الأولى.
وبحسب شاب من أنصار حركة فتح، فإن الفرحة هذه المرة كانت عارمة لأن المقاومة عموماً كانت بقدر المواجهة أكثر من أي وقت مضى، ولأن «الجرح كان قد برد». فحرب غزة الأولى جرت بعد وقت قصير من «الحسم أو الانقلاب» الذي أخرج فتح من مواقع السيطرة في القطاع وكرّس حماس سلطة وحيدة. ونظر قسم من الشعب الفلسطيني في حينه إلى القسم الآخر كعدو يجوز التشفي به إن لم يكن التحالف حتى مع الشيطان ضده. وبحسب هذا الشاب كان يصعب على «الفتحاوي» التعاطف مع «الحمساوي» في الحرب السابقة جراء الإهانات التي لحقت بفتحاويين حتى من المعارضين للفساد. وكان يصعب التعاطف معهم لأن قسماً منهم كان في القبر أو مصاباً أو مهجراً والكل مهاناً. والحال يختلف اليوم، في نظر الفتحاوي، عما كان عليه حينها.
صبيحة الاحتفال بيوم النصر، كانت رايات حركة فتح توازي أو تزيد عن رايات حركة حماس، الأمر الذي دفع البعض للتندر قائلاً «استغلت فتح انشغال نشطاء حماس بالعودة إلى بيوتهم ونيل الراحة بعد القتال فملأوا الشوارع». مازحت أحد قادة فتح، وهو وزير سابق أيضاً، قائلاً «من يرَ الرايات يظن أنكم كنتم من تقاتلون». ضحك، وهو الوطني الأصيل، ربما بمرارة، ورد «فقط عملنا واجبنا».
وخلال نقاش قصير مع هذا القيادي الفتحاوي كان واضحاً أن الوجهة هي مراجعة الأحوال. لم يخف توقعات بأن المستقبل القريب سيحمل انتعاشاً في أداء حركة فتح، خصوصاً على الصعيد السياسي. وفي نظره، سيضغط العالم من جديد لتحريك المسألة الفلسطينية ليس فقط في الأمم المتحدة وإنما، كذلك، على طاولة المفاوضات. كان يصعب الإقناع بأن المراجعة ضرورية ليس فقط بسبب الأداء وإنما أصلاً بسبب الوجهة. ولكن هذا ما عليه الحال: توقعات بتحريك سياسي قريب للمسألة الفلسطينية.
ومن الجائز أن هذه التوقعات، وتلك الآمال، هي ما يفتح الباب أمام التساؤلات حول الثمن السياسي. والأمر ليس حكراً على حركة فتح بل ان الكثير من نشطاء وقادة التيارات اليسارية في القطاع يعرضون مثل هذه التساؤلات. والواقع أنها في حقيقة الأمر ليست تساؤلات بقدر ما هي شكوك تختفي تحت علامات الاستفهام بسبب حقيقة بسيطة: يصعب التشكيك في من حقق إنجازاً للمقاومة الفلسطينية في أيام الاحتفال بالنصر.
وتحت ستار التساؤلات تختبئ أفكار وتوجهات سياسية وأيديولوجية مختلفة. والحق أنها «تساؤلات» سرت أيضاً في صفوف بعض الإسلاميين عندما تولت حركة حماس الحكم في القطاع بعد انتخابات العام 2006. ويذهب قسم من هذه التساؤلات إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وما يشاع عن اتفاقات أبرمتها مع الإدارة الأميركية لتسلم الحكم في الدول العربية وصولاً إلى تسوية سياسية مع إسرائيل.
وبالرغم من أنه في سجال سياسي من هذا النوع يصعب تأكيد أو نفي أي شيء، خصوصاً لأن كل طرف يملك «شواهد» يصعب عليه «دحضها»، إلا أن المنطق في ما يتعلق بإسرائيل يفرض نفسه. فالذي يتابع القضية الفلسطينية، على الأقل في العقدين الأخيرين، يرى أن القيادة الفلسطينية «المساومة» أتمت تنازلها التاريخي بإعلان قبولها دولة في حدود العام 1967 وتقديم خدمة لفظية لحق العودة. ولم يكن الفلسطيني، في هذه الحدود، هو من حال دون إبرام التسوية مع إسرائيل. إذ ظل القادة الإسرائيليون، من رئيس الحكومة الأسبق اسحق رابين إلى الحالي بنيامين نتنياهو في ولايته الثانية، مروراً بشمعون بيريز، ونتنياهو الأول، وإيهود باراك وإيهود أولمرت، في كل عروضهم، يصرون على تحقيق مكاسب إقليمية داخل ما يعرف بمناطق العام 1967.
واحد يصر على القدس الشرقية، وآخر على غور الأردن، وثالث على المرتفعات، ورابع على عنق الزجاجة قرب طولكرم وقلقيلية، وخامس على الأماكن الدينية في الخليل ونابلس وسادس… وكان جلياً أن أقصى ما يمكن للإسرائيليين تقديمه لا يتناسب مع الحد الأدنى الذي يمكن للفلسطينيين قبوله. وهذا ما خلق مع مرور الأيام أزمة «الشريك» التفاوضي. كان في وقت من الأوقات أبو عمار شريكاً، قبل أن يتحول إلى «لا شريك». صار أبو مازن شريكاً، قبل أن يغدو «لا شريك». ربما يعتقد البعض أن حماس قد تكون شريكاً، ولكن لماذا نتوقع أن «تضبط» الأمور هذه المرة؟
هل لأن إسرائيل اليوم أكثر مرونة مما كانت عليه في العام 1993 عندما أبرمت اتفاقيات أوسلو؟ أم أنها أقل تطرفاً اليوم مما كانت عليه عند مفاوضات كامب ديفيد؟
ليس المرء بحاجة لقراءة الخريطة السياسية في إسرائيل والتدقيق فيها. إنها تفرض نفسها فرضاً علينا جميعاً، وتصدمنا بوضوحها: الميل في إسرائيل تاريخياً ينحو نحو اليمين. وميل اليمين تاريخياً ينحو إلى الفاشية. «الليكود بيتنا» (تحالف حزب الليكود مع حزب إسرائيل بيتنا) أشد تطرفاً من الليكود. من الآن فصاعدا احفظوا هذه الأسماء: موشي فايغلين، جلعاد أردان، داني دانون. قد يكون نتنياهو المتطرف معتدلاً جداً في حساب هؤلاء. هؤلاء هم قادة إسرائيل الجدد. حتى أسماء يعرفها الجميع مثل دان ميريدور، بني بيغين لم تجد لها مكاناً لدى المتطرفين الجدد في إسرائيل، لأنهما في نظرهم «يساريان».
لا حاجة لتبديد الجهد والفكر في مناقشات غير مجدية على هذا الصعيد. من يرد منافسة حماس و«الإخوان المسلمين» يمكنه أن يجد لديهم ألف نقطة ضعف حقيقية يركز عليها. فإن مسألة التسوية مع إسرائيل في الغالب ليست بينها، إن لم يكن بفضلهم، فعلى الأقل بفضل عدونا جميعا!
السفير اللبنانية .