«كيف تبقى خالداً؛ بعد أن يفنى لحمك وعظمك؟ اقتل أحداً، دمر بلاداً بأكملها، أو اختر الأكثر استحالة: ابنِ أياً منهما».
جور-إل (والد سوبرمان من قصة الكوميكس «ولادة سوبرمان الثانية»)
لم يكن غريباً أبداً أن يتحوّل فلاديمير بوتين إلى بطلٍ من أبطال الكوميكس عبر رسوم نشرت على الانترنت للكاتب الروسي سيرغي كالينك. فالرئيس الروسي يقدّم نفسه على هذه الهيئة منذ سنين عدّة، وما رآه العالم خلال السنتين الفائتتين من سطوته، يعرفه الروس منذ عام 2000. تزدان روسيا بكثيرٍ من المنتجات – التي تمجّد القوة – وتحمل اسم الرئيس كعلامةٍ تجارية رسمية: مقويات جنسية، مشروبات طاقة، معدات تدريب بدنية ورياضية، وحتى ثياب قتال.
كأبطال «الكوميكس» الخارقين، يدير رجل روسيا الجبار امبراطوريته الجديدة. يشبه «كسرى» الإمبراطور- الإله من رائعة فرانك ميللر الرسومية «300». يتساءل كثيرون عن ماذا يبحث الرجل؟ ما هو الدافع وراء كل ما يقوم به؟ الإجابة واضحة: أن يضحي أسطورة. هي صناعةٌ شديدة الصعوبة، لا شكّ في الأمر، لكنها ممكنة: تمسك بيدٍ بلادك؛ كطفلٍ حدث الولادة، وتعبر بها عبر كل مخاطر البلوغ، وصولاً إلى ما هي عليه اليوم: دولةٌ صناعية قوية، جسمٌ اقتصاديٌ صلب، وفوق كل هذا سيفٌ عسكريٌ صارم، ورمحٌ طويل يستطيع اصطياد أعتى الخيّالة. يختار الرجل أعداءه باتقان الأبطال الخارقين: فلكي تكون بطلاً ناجحاً لا بدّ لك من خصمٍ يساويك بأساً. أنجيلا ميركل هي ذاك الخصم. ميركل؛ المرأة الأكثر جبروتاً وقوةً في أوروبا بأكملها، ناجحةٌ للغاية، بلادها ذات اقتصادٍ متين، شخصيتها براغماتية ومرنة رغم قدرتها على التصلّب في ثوانٍ معدودة، كل هذا مكّنها من قيادة الإتحاد الأوروبي بكل نجاح خلال السنوات الخمس الماضية رغم أزماته المتلاطمة. هي إذاً تعرف كيف تتعامل مع كل الصعوبات ولاريب أن أزمة اسبانيا المالية كانت آخر انجازاتها، فهي استطاعت وبضربة «معلّم» التخلّص من «صرير» اقليم كتلونيا المزعج الذي يهدد بالانفصال – في كل لحظة – عن اسبانيا، عبر اعطاء جرعة «سحرية» للاقتصاد الاسباني. هي خصمٌ عنيد وقوي إذا. هي كل ما يحتاجه بوتين للبروز، لكنها – للأسف – لا تكفيه كي يحقق أسطورته الشخصية كاملة. فالمعركة مع ميركل، والخروج منها منتصراً ستكون نوعاً من التدريبات الشاقة تحضيراً للمعركة الأهم: قيادة العالم وانتزاعها من فكي كماشة الولايات المتحدة الأميركية.
الغرب بالتأكيد سيحول بوتين لنموذج هتلري ستاليني، لكن الحقيقة تكمنُ حسب زاوية الرؤية
يعرف بوتين أن أوباما ليس الخصم المثالي له، فأوباما رجل «سلام» و«حلول» و«تفاهمات»، زعيم بهدوء. هكذا زعماء لا يحاربون الرجل الأشقر ذو الشعر الخفيف، هؤلاء يتفاهمون معه، يتسامرون معه، لكن لا يحاربونه. ليس لأنّهم يخافون، بل بالعكس، لأنّهم يحسبون كل شيء بمنطق الربح والخسارة. يطبق أوباما، وهو أمرٌ يعرفه رواد السياسة الأميركيين تماماً، أسلوب النمل دائماً في ما يسعى إليه: المثابرة والإصرار ويتجنب المواجهة أياً كان نوعها مع خصومه إذا لم يكن منها بدٌ. لا يحبذ التدخلات العسكرية، لا يحبذ الصراعات الدموية، كما بالتأكيد لا يريد أبداً مواجهةً من أي نوعٍ مع رجل روسيا الخارق. يحتاج «القيصر» كما يلقب في روسيا إلى رئيس أميركي مشابه لرونالد ريغان، أو جون كينيدي، أو حتى جورج دبليو بوش. امتلك هؤلاء الرؤساء ناصية الحكم في بلادهم، سيطروا على السلطة بشكلٍ كامل، كاريزماتياً، سياسياً، وشعبياً، لذلك لم يخشوا أبداً استعمال يد أميركا العسكرية للضرب من حديد حينما خالفهم أيٌ الرأي، ومهما كان بعيداً، لاحقوه. هذا النوع من الخصوم هو المطلوب هنا: خصمٌ لا يخشى «العسكرة» والصراع الدموي، فالأمجاد لا تقام إلا بالدماء؛ العسكري السابق في «الكي جي بي»، يدرك ذلك تماماً.
حين حصلت الأزمة الأوكرانية العام الحالي، أخرج بوتين نابه الأزرق – كما يقال بالعامية – أظهر أنه غير مستعد للمفاوضاة، والمقامرة، واللعب. ففي اللحظة التي أذعن فيها حليفه رئيس أوكرانيا المخلوع فيكتور ياناكوفيتش بعدم قدرته على الإمساك بزمام الأمور وفراره إلى روسيا. حرّك الرئيس الروسي قواته العسكرية، استعراضاً أول الأمر: فالحروب – والعسكريون يدركون الأمر جيداً – تخاض باستعراض القوى قبل المعركة نفسها أصلاً. بعد ذلك لجأ إلى تحريك حلفائه في أوكرانيا وتحديداً على حدوده: شبه جزيرة القرم – بأكثريتها الروسية -، والدولة الوليدة شرقي أوكرانيا «نوفوروسيا» (تتكون من اقليمي لوغانسك ودونتسك) مع بافل غوباريف وميليشياتيه «الشعبية». هو كان قد حضّرهم مسبقاً لهذه المرحلة – بأسلوب الكي جي بي القديم – العميل النائم، «نستعملك حينما نحتاجك، فلتغفو». صحيحٌ أن أولئك الحلفاء، لم يخفوا أبداً ارتباطهم الكلي بروسيا الاتحادية، لكنهم أيضاً لم يتخلوا – ولو لثانيةٍ – عن انتمائهم لأوكرانيا، لذلك كانت استفادة بوتين مضاعفة. حلفاءٌ «أوكرانيون» مستعدون لخوض المعركة في الواجهة، وجيشٌ روسي قادرٌ على التدخل لتمزيق أعدائه المشرذمين. على الجانب الآخر، كانت ميركل في قمرة القيادة، تؤيد حلولاً لا عسكرية يعاونها في ذلك رئيسٌ أميركيٌ مناور إلى أبعد الحدود (أوباما) يخوض معارك كثيرة داخلياً (أبرزها مشروعه الصحي Obama Care مثلاً) ولا يرغب بصراعات «دموية» خارجاً، رئيس ورزراء إنكليزي متساهل (كاميرون) يستفيد من الروس اقتصادياً بشكلٍ كبير، مدركاً بأن الشركات الروسية تدعم وبشكلٍ كبير البورصة في بلاده (حصتها فعلياً 4.1 مليار دولار بحسب مجلة «بلومبيرغ بيزنس ويك» الأميركية)، لذلك لا يرغب البتة في تعريض ذلك للخطر، ورئيسٌ فرنسي لا يزال حدثاً في السياسة الخارجية (هولاند). أضف إلى هذا حلفاءٌ أوكرانيون لا يمكن الركون إليهم بأي حالٍ من الأحوال: عنصريون، فاشيون، وفوق كل هذا لاتستطيع أخذ أي ضمانةً منهم مهما كانت. لعب بوتين الكرة بالجميع في أزمة أوكرانيا، فهو كان يريد تجربة «نفوذه» في العالم، في الوقت نفسه كان يراهن – شرق أوسطياً – على بقاء النظام السوري الذي يحكمه الرئيس بشار الأسد، حليف روسيا الأبدي. لكن المراهنة عند الزعيم الروسي ليست مجرد كلام، فالمراهنة تعني دعماً مشروطاً في البداية، ثم مفتوحاً بحدود، وصولاً إلى طائرات وتقنيات لم تصل من قبل إلى دولةٍ في العالم الثالث. انتصار الأسد يعني حكماً انتصاراً لموسكو وبطلها الخارق. هكذا يمدُّ القيصر يده الطويلة إلى قلب الشرق الأوسط، قريباً من حليف أميركا الأول: الكيان الصهيوني. هناك حيث تؤلم الضربة الأميركي كثيراً، وتجعله متحمساً لحل أي مشكلةٍ مهما كانت التضحيات، فبوتين يعرف ملياً مقدرة اللوبي الصهيوني على تجيير كل الأمور لمصلحته وقتما يريد، بالتالي يظل يداعب الفكرة كلما احتاج الأمر.
ستصبح الساحة إذا هكذا: رقعةٌ ممتدة يسيطر فيها «القيصر» على مقدرات الأمور: أميركا بإدارةٍ واهنة لا تختار حلولاً حاسمة على الأرض، أوروبا لا يعلو صوتها عليه أبداً فهو يمسك بيدها التي تؤلمها كثيراً (غازاً وبترولاً وبورصةً)، ايران الحليف الأقوى في المنطقة وبوابة الإطلال على الخليج العربي، وأخيراً، سوريا ساحة التخلّص من إسلاميي الشيشان وبوابة ضرب الكيان العبري في حال احتاج لتوجيه رسالة شديدة اللهجة
إلى الأميركيين. هكذا هو العالم كما يتصوره بطل الكوميكس الروسي، أو لربما هو البوابة للحلم الذي يسكنه: أن يغدو أسطورة!
سيغدو بوتين أسطورةً ذات يوم، هو أمرٌ لا شك فيه، وسيذكره الروس كثيراً، ويترحمون عليه حين وبعد رحيله، لكن الأمر الذي لم يتضح بعد هو: هل سينظر إليه العالم على الشاكلة نفسها؟ الغرب بالتأكيد سيحوله لنموذج هتلري ستاليني جديد، لكن الحقيقة، كل الحقيقة؛ تكمنُ دائماً حسب زاوية الرؤية.
* كاتب فلسطيني