يعيش اللبنانيون على أعصابهم، تنذرهم الأخبار العاجلة بالشر المستطير المقبل عليهم من حيث لا يتوقعون: من طرابلس التي تنام في قلب الخطر، من عكار التي تكاد تتحول إلى خط نار، من عرسال التي تعذر علاج حالتها فتركت لقدرها… وها هي صيدا التي كانت عنواناً للأمان وللوحدة والأخوة الصادقة بين أهلها حتى حدود فلسطين، وصعوداً حتى جزين وصولاً إلى الشوف، تدق أجراس الإنذار بشر مستطير.
لقد تحول لبنان إلى جبهة خلفية لمشاريع الفتنة الطائفية التي تجتاح المشرق العربي من المتوسط وحتى بحر العرب.
كل دعاة الفتنة هنا. كل مموّلي الفتنة هنا. كل المستفيدين من الفتنة على حساب الأوطان وأهلها هنا. يتحركون ويحرّكون أسباب الشقاق ويهيّئون الأرض للصدام الدموي المفتوح، بلا رادع من ضمير وبلا وازع من سلطة وطنية تتصدى لمشاريع الفتنة فتحبطها قبل أن تتفجر بالبلاد والعباد.
ينتشر السلاح في كل لبنان. لا يوجد بيت بلا سلاح. لا يوجد تنظيم أو حزب بلا سلاح.
الدولة بوصفها مركز القرار غائبة أو مغيبة بحسابات الربح والخسارة لمسؤوليها. فالفتنة استثمار مجز. تحول الرؤساء إلى واعظين وتحولت الحكومة إلى «شيخ صلح» يحاول معالجة القنابل الموقوتة بالمواعظ الأخلاقية.
أُنهك الجيش الذي حوّلوه إلى قوة فصل بين الإخوة الذين يراد لهم أن يتحولوا إلى أعداء. يدفعونه إلى نقاط التماس ليقيم مناطق عازلة من دون قدرة على التصدي للمخالفين، لموتّري الأجواء، للمسلحين الذين يتزايدون عدداً وعدة. يرسلونه ولا أوامر بالتصدي.. فيقف مكتوف اليدين بين نارين. لا هو قادر على حسم الأمور بقوته بسبب «حساسية الوضع»، ولا هو يمكن أن يبقى في هذا المستنقع وإلا ضربه المرض.
يفقد الجيش هيبته. تكشفه حكومات العجز. تطلب منه أن يقوم بدورها السياسي: تغطيه بالتصريحات المتناقضة. هو ممنوع من التقدم في اتجاه الحسم، وممنوع من العودة إلى ثكناته ليستبقي بعض هيبته.
تطل الظواهر المقلقة برأسها. تكون في البداية محدودة الأثر ويمكن استئصالها. لكن، سرعان ما يتبين أن لكل ظاهرة من يرعاها ويستثمرها في آن.
وبدل أن تتكاتف الجهود لحماية لبنان من تداعيات الكارثة القومية التي ضربت سوريا،
صار المطلوب استدراجه إلى الفتنة. لم ينجح الأمر في طرابلس، لم ينجح الأمر في عكار، لم ينجح الأمر في عرسال، لم ينجح الأمر في بيروت. فلتركز الجهود على صيدا عاصمة المقاومة، عاصمة الجنوب. المدينة التي سبقت إلى تقديم الشهداء من أجل فلسطين ومن أجل الوطن. لا بد من اغتيال الشهداء لتغيير طبيعة صيدا. لا بد من الفتنة لاغتيال صيدا بموقعها ودورها وهويتها الوطنية.
المال كثير. والسلاح ميسور. ودعاة الفتنة يتزايدون باستمرار. يحاولون ولا ييأسون. ينفخون في بوق المذهبية في مدينة كانت، مثل طرابلس، مثل بيروت، مثل بلاد بعلبك، محصنة بوطنيتها ضد الفتنة. محصنة بفلسطين. محصنة بتاريخها المقاوم. محصنة بشهدائها.
تفاوض الدولة الخارجين على القانون. تفاوض الدولة أهل الفتنة. يذهب إليهم الوزراء. يستقبلهم الرؤساء. تتدخل الدول. تتم التهدئة لأيام أو أسابيع.
ثم يتم فتح الجرح من جديد.
صار لبنان أرخبيلاً من دول السلاح، شمالاً وبقاعاً، عاصمة وضواحي، وها هي ألسنة الفتنة تهدد القلعة التي ظلت عصية عليها: صيدا.
لا علاج في غياب الدولة.
لا علاج إذا ظلت الدولة شيخ صلح.
لا علاج إذا كانت الحكومة حكومات، لكل طرف منها حساباته الخاصة: ربح الطائفة وأصوات ناخبيها أهم من حماية البلاد بأهلها جميعاً.
أي حل خارج الدولة صفقة على حسابها.
لم يتبق من الدولة إلا الجيش.
وها ان الجميع يتنصل من مسؤولياته في السلطة ويلقيها على الجيش.
الجيش مهدد.
وإذا خسرنا الجيش فمن يضمن وحدة البلاد والسلم الأهلي ومستقبل أبنائنا الآتين؟
لا نستطيع التسليم بأن الدولة عاجزة. لا نستطيع التسليم بأن الحكومة تنأى بنفسها عن همومنا من «السلسلة» إلى الأمن… إلى الفتنة.
السفير اللبنانية.