ليست المؤسسات هي التي تقرر الذهاب إلى الحرب أو صنع السلام أو تحديد من يتعرض للتدمير أو القتل؛ هذه الأفعال هي مسؤولية الأشخاص. ولذلك، فإن محاولة فهم الأسباب الجذرية للصراع فقط من منظور السياسات والموارد، من دون فهم السلوك الإنساني أيضاً، إنما يقوض فعاليتنا في منع اندلاع الحرب، وبالتالي في صنع السلام.
مرت ثلاثة أعوام الآن على اندلاع الحرب في سورية. وحتى الآن، قتل نحو 12000 شخص، وأصبح 2.5 مليون شخص لاجئين، وشرد 6.5 مليون شخص داخلياً في سورية. وفي الأثناء، تشعر الحكومات الغربية بالإهانة بسبب عجزها عن التأثير على التطورات، وتواجه راهناً تحدياً مرة أخرى يتعلق بنزع فتيل الأزمة في أوكرانيا. وعندما تم إرسال كوفي أنان للتوسط في سورية، كان 6000 شخص قد قتلوا أصلاً. ومع وصول الأخضر الإبراهيمي، كان عدد القتلى 30000 شخص. وعند تلك المرحلة أصبح الناس مهووسين بسفك الدماء ويسعون إلى الانتقام، ولم يكونوا في مزاج تقديم التنازلات، وهو ما يعد مكوناً ضرورياً لصنع السلام.
مما لا شك فيه أن عنف الحرب يخلق مجتمعات متألمة. وتمنع مشاعر الخوف والغضب والإذلال أي نوع من الحكم المتعقل وتسيطر على المزاج. وتؤثر مثل هذه الأحاسيس على قدرة المنخرطين في الصراعات على التفكير بعقلانية، وعلى التصرف بما يخدم أفضل مصالحهم. وبأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، تحتاج الحكومات إلى الالتزام بالتدخل المبكر قبل أن يتم تعذيب المجتمعات. وفي محاولة للخروج من الضباب الراهن، ما الذي ستكون عليه الأمور لو تمكنا من تأسيس نظام للإنذار المبكر والتوسط المبكر عندما يتعلق الأمر بصراع دولي، نظام يستطيع التعامل مع تعقيدات كل من سياسة القوة والعقل البشري معاً؟
لم تعُد مثل هذه الأسئلة تبدو ذات صلة عندما يكون الصراع قد احتدم. على سبيل المثال، قام لاعبون إقليميون إلى تحويل ما بدأ كانتفاضة شعبية ضد عائلة الأسد بسرعة إلى حرب بالإنابة، وكان اللاعبان الرئيسيان هما المملكة العربية السعودية وإيران.
كان يمكن لوساطة مبكرة يضطلع بها محاورون ماهرون يتمتعون بالمصداقية -ربما من غير الغربيين في هذه الحالة- أن تتمكن من جلب اللاعبين بالإنابة للجلوس سوية. وحتى يكون هذا فعالاً، تكون العلاقات ضرورية، ويكون على الوسطاء الموثوقين أن يتنقلوا بين الأطراف، العربية السعودية وإيران بشكل خاص، لمعالجة الخلافات بين هؤلاء الضامنين لأي هيكل جديد. وفقط بعد أن تكون هذه المفاوضات غير الرسمية قد جرت بين العربية السعودية وإيران، سيكون للمفاوضات بين الأطراف السورية المتحاربة فرصة أفضل لتحقيق النجاح. على الأقل لأن تدفق الأموال والأسلحة إلى الحكومة السورية والمعارضة السورية على حد سواء سيكون قد عولج من جانب الوكلاء.
حتى يتمتع الوسطاء بالشرعية، فإنهم يحتاجون إلى أن ينظر إليهم على أنهم أطراف مستقلة ذات مصداقية، وربما يكونون من مواطني البلدان التي يتوسطون نيابة عنها، ويحتاجون إلى أن يكونوا قادرين على تقديم التغذية الراجعة للحكومة على كل المستويات وحيث تصنع القرارات. ولأنهم سيفتقرون إلى الحقائب السياسية التي يمتلكها نظراؤهم من الدولة، فإن الأطراف المتحاربة قد تكون أكثر رغبة في التحدث معهم. كما يجب إحباطهم بالحذر الرسمي والبيروقراطية، وإنما أن يمكنوا بدلاً من ذلك من التحرك بسرعة بالحيوية الضرورية.
غالباً ما تتحرك الأطراف المنخرطة في الصراعات بفعل جروح صغيرة وكرامة مجروحة، وليس بدفع معتقدات إيديولوجية كبيرة. ولا يمكن محو الذاكرة التاريخية.
في كتابنا الجديد “ضباب السلام”، نوصي أنا ومفاوض الأمم المتحدة السابق، جياني بيتشو، الذي كان مسؤولاً عن الإفراج عن الرهائن الغربيين في بيروت، بتأسيس هيئة وساطة ذات مصداقية، والتي تكون صغيرة، ورشيقة، ومرنة، وحرة من البيروقراطية. ولعل البيت الواضح لهذا النوع من التدخل هو الأمم المتحدة، والذي سيفعل الكثير، في سبيل تحسين سمعة هذه المؤسسة. لكن ثمة بيوتاً أخرى جديرة بالدراسة وتحظى بقبول طائفة واسعة من منظمات الدفاع عبر العالم، والتي قد تشمل حلف الناتو، وحلف وارسو، ومجلس التعاون الخليجي، كما يمكن أن توفر أخريات مظلة.
لقد خلقت المحاولات التقليدية لصنع السلام بيروقراطيات معقدة، وسيركات للدبلوماسيين، ومسافرين دائمين حول مسار العالم مع القليل من الأدلة على النجاح في حل الصراع. وفي الحقيقة، أثبتت الهياكل الراهنة أنها غير مقبولة وسيئة التفهم لمهارات الوساطة. وقد أصبحت الحاجة ماسة راهناً إلى شكل جديد من الوساطة، يعترف بالرويات المتنافسة للأطراف المنخرطة في الصراع.
سوف يحتاج المحاورون إلى أن يعملوا بهدوء من خلف الستار وخارج ألق الدعاية، وقبل أن يكون الصراع قد وصل حد الاستقطاب. وأن يكونوا نوعاً من أمناء المظالم الكونيين، حيث الرشاقة والتدخل المبكر سيكونان خاصيتين ضروريتين.
* مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة أبحاث أكسفورد، ومشارك مع غياني بيتشو في تأليف كتاب “ضباب السلام”.
الغد الأردنية