شهد العام الجاري 2023 تطورات في المسارين الدولي والإقليمي تظهر قراءتها بتمعن بعيداً عن الرومانسية أنها تصب في المصلحة الإستراتيجية الفلسطينية، مما يجعل من 2023 نقطة تحول في السياستين الدولية والإقليمية لصالح القضية الفلسطينية، الأمر الذي يجعل من تطوير الوضع الداخلي فرض عين على الفلسطينيين يؤثم من تكاسل في أدائه، وذلك لاستثمار ما تنطوي عليه هذه التطورات من فرص، بات واضحاً أنها تفوق حجم ما تنطوي عليه من تهديدات في مسار الحرية والإستقلال والدولة المستقلة.
ففي العام الجاري يكون قد مر على النكبة الفلسطينية التي هي الركيزة الأساس للرواية الفلسطينية، وعلى قيام دولة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين الإنتدابية، وعلى صوغ النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية قيمه ومبادئه التي إستثنى فيها الشعب الفلسطيني من المصير العام 75 عاما، ويكون قد مر على إحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية بما فيها شرق القدس وقطاع غزة) 55 عاما، كما يكون قد مر على توقيع اتفاقية أوسلو التي تعتبر الأساس الذي قامت عليه السلطة الفلسطينية 30 عاما.
وفيما تلقت إسرائيل على مدى العقود الماضية الدعم والتأييد الكاملين من قبل شركائها في العالم (الغرب الإستعماري) إن مادياً أوسياسيا أو شعبيا، مما دفعها ولا زال الى الإيمان أنها دولة فوق القانون تفعل ما تريد بالفلسطينيين وممتلكاتهم ومقدساتهم دون حسيب أو رقيب، وما على الفلسطينيين والعرب والمسلمين ومن خلفهم العالم بأسره، إلا التسليم بها كأمر واقع، والخضوع لشروطها التي دفعت رئيس وزرائها الحالي نتنياهو الى التبجح بالقول في السنوات الأخيرة أن إسرائيل تنشد السلام مع الفلسطينيين والعرب! لكنه سلام مجاني , ودون مقابل! اي سلام مقابل سلام، وليس سلام مقابل أرض وحقوق للفلسطينيين، وسلام وفق رؤية إسرائيل، لا سيما رؤية اليمين المتطرف الذي يحكم الدولة الآن، لا سلام وفق الشرعية الدولية وقراراتها التي زاد عددها عن الألف قرار.
إلا أن العام الجاري يمكن اعتباره نقطة تحول في مسيرة الصراع، لا سيما وأنه شهد ولا زال تحولات على صعيد الداخل الإسرائيلي، والفلسطيني، والإقليمي، والدولي، جميعها تقول أن المشروع الصهيوني الإستعماري في فلسطين هو مشروع مبني على الفشل وقد وصل الى نهايته، ولا خيارات أمام اصحابه إلا الإعتراف بحقيقة الفشل، وأنه قد آن الآوان لرفع الظلم التاريخي عن الشعب الفلسطيني وإعطائه حقوقه أو بعض منها في الحرية والإستقلال وتقرير المصير وإقامة دولته ذات السيادة الخاصة به على أرضه.
فعلى صعيد الداخل الإسرائيلي فيشهد المجتمع السياسي والثقافي والإعلامي فيها سجالاً وجدلاً عميقين يحركهما سؤال وإن لم يبرز للسطح مفاده لماذا لم تصبح إسرائيل دولة يهودية آمنة عادلة مزدهرة ديمقراطية كما أرادها المؤسسون الأوائل بعد كل هذه العقود على قيامها؟ ثم لماذا تتآكل قوة ردع إسرائيل أمام أعدائها وما أكثرهم في المنطقة على الرغم من كل ما تمتلكه من ممكنات عسكرية وتكنولوجية واقتصادية ودعم سياسي من القوى العظمى المهيمنة على النظام العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟
ولماذا اصبح عدد اليهود على الأرض الممتدة من البحر للنهر اقل من عدد أصحاب البلاد الأصلانيين؟ ولماذا لم تتجاوز نسبة المهاجرين اليهود الى إسرائيل منذ بدء الهجرة اليهودية الى فلسطين قبل اكثر من قرن ال 43% من اجمالي عدد اليهود حول العالم؟
ولماذا لم يستسلم الفلسطينيون ويرفعوا الراية البيضاء على الرغم من نكبتهم المتواصلة منذ 75 عاما؟
ولماذا لا زال ما نسبته 52% من مواطني الدولة اليهود يعتبرون أن الفلسطينيين هم التهديد الخارجي الأكبر للدولة مقابل 24% ترى أن البرنامج النووي الإيراني هو التهديد الأكبر، وفقاً لمؤشرات مقياس الأمن القومي الإسرائيلي للعام 2023؟ والأهم لماذا أصبحت هذه الدولة في نظر نسبة عالية من اليهود في إسرائيل وحول العالم هي دولة أبارتايد وفصل عنصري فيما أنها قدمت لهم على أنها واحة الديمقراطية والملجأ الحامي لليهود من جرائم النازية واللاسامية؟
أما على الصعيد العالمي فهناك تحول في النظرة لإسرائيل إن على صعيد المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها أو صعيد القوى العظمى في هذه اللحظة من الزمن التي يشهد فيها النظام العالمي تحولا جذريا وانتقالا من نظام القطب الواحد لنظام متعدد الأقطاب، أو على صعيد الرأي العام لا سيما الرأي العام الأمريكي خاصة في أوساط الجاليات اليهودية.
ومن ابرز التحولات في هذا الشأن كان احياء الأمم المتحدة لذكرى النكبة الفلسطينية كجريمة ارتكبت بحق الفلسطينيين، الأمر الذي يفتح الأبواب حتى وان كان بعد 75 عاما على ضرورة معاقبة مرتكبي هذه الجريمة، ثم إعلان كافة أقطاب النظام العالمي سواء القديم الذي لم يلفظ أنفاسه بعد، أم ذلك الجديد المنشود الذي لم يقف على قدميه بعد بضرورة انصاف الشعب الفلسطيني واقامة دولته المستقلة، الأمر الذي تجلى ايما تجلي في قمة بريكس الأخيرة في جوهانسبيرج.
أما على صعيد الراي العام فلم يعد بإمكان كل مواكن صناعة الوعي وتشكيل الراي العام المؤيدة لإسرائيل والمملوكة من قبل اللوبيات اليهودية حول العالم تغيير وسم إسرائيل بأنها دولة أبارتايد وفصل عنصري، لا سيما في أوساط كبار جنرالات منظومة الأمن الإسرائيلي وفي أوساط الجاليات اليهودية الأمريكية، الأمر الذي من المتوقع أن ينتقل الى داخل مؤسسات الحكم الأمريكية خلال عقد من الزمان.
ويعتبر التطبيع السعودي الإسرائيلي وشروط السعودية للتوقيع على معاهدة التطبيع المتوقعة من أبرز التطورات التي يشهدها العام الجاري على الصعيد الإقليمي، وحدد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هذه الشروط في مقابلته النادرة والطويلة على قناة فوكس نيوز الأمريكية قبل اربعة ايام بثلاثة شروط، (اعطاء الفلسطينيين ما يحتاجونه، تطبيع يوحد المنطقة، تسهيل حياة الفلسطينيين، حياة جيدة للفلسطينيين).
وفيما لم يتطرق ولي العهد للدولة الفلسطينية المستقلة كشرط من شروط التطبيع، إلا أن وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان اضاف هذا الشرط في كلمة المملكة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم السبت الموافق 23/9/2023.
ما تقدم يظهر ان العام الجاري قد دشن بالفعل نقطة تحول في السياسة الإقليمية والعالمية لصالح فلسطين، الأمر الذي ينهي تبجح نتنياهو بأن إسرائيل مستعدة لصناعة السلام مع الفلسطينيين والعرب مجاناً ودون مقابل من إسرائيل، فإسرائيل اليوم في مواجهة الحقيقة وعليها أن تقرر اين الإتجاه؟ هل ستعترف بالفشل، أو ستستمر في مواصلة خداع شعبها واليهود حول العالم؟
وربما هذا ما دفع الرئيس عباس للقول من على منصة الأمم المتحدة في كلمته قبل عدة ايام بأنه “واهم من يعتقد أن بإمكانه صناعة السلام في المنطقة دون إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه كاملة” نعم هي كذلك سيدي الرئيس ولكن علينا بالمقابل الإستعداد لما هو قادم وإجراء كل التغيرات المطلوبة كي نتجنب الإثم ونحظى بإحترام وفخر الأجيال القادمة.
عن صحيفة القدس