لم يكن الاستشراق منذ بواكيره اعزل رغم ما تخفى وراءه من هواجس معرفية وفضول حضاري، لكن اسلحته تبدلت تبعا لأنماط الحروب التي خاضها، وهذا ما ادركته شعوب هذه المنطقة رغم محاولات التماهي التي لجأ اليها مستشرقون سواء من خلال اعلان اسلامهم وتغيير اسمائهم وارتدائهم الازياء الفلكلورية، ففي الاسكندرية ذعر الناس عندما شاهدوا من خلال اسطرلاب احد المستشرقين البنايات مقلوبة، وقالوا ان هذا الغريب جاء ليمسخ عالمنا، وقد تبدو ردة الفعل تلك ساذجة، لكن دلالاتها النفسية والتاريخية ابعد من ذلك، وما قدمه فولتير من مشاهد جنسية سادية عن الشرق كان لا بد لقارئيه ان يجزموا بأن الشرق ليس الا بدعة تماما كما قال ادوارد سعيد حين سمى الشرق بدعة الغرب او صناعته، وباستثناء الاستشراقين الروسي والالماني الى حدّ ما كان الاستشراق كولونياليا في بواعثه ومناهجه وغاياته، ربما لأن الالمان والروس لم يكن لهم من الوجود والنفوذ الاستعماري في المنطقة ما يدرجهم في القائمة ذاتها، لهذا طالما استبعد دارسو الاستشراق من العرب هذين الاستشراقين لأنهما يشذّان عن القاعدة ويتطلبان هوامش استثنائية، ولأن ادوارد سعيد قرأ الاستشراق في احد معاقله الاكاديمية عندما تفرغ لانجاز كتابه عن الاستشراق في جامعة كولومبيا فقد وجد ان الاستشراق الانجلوساكسوني والفرانكفوني لم يكن رغم كل الاقنعة والمزاعم الاكاديمية الا المرادف النظري للامبريالية، لهذا اثار سعيد حفيظة بعض نقاده، وان اختلفت المقتربات فبرنارد لويس تصدى لأطروحة سعيد بما ترسب لديه من موروث استشراقي، اما الدكتور صادق العظم فقد رأى ان تعميم سعيد اوقعه في رؤية ميتافيزيقية للاستشراق، وكان رده السجالي قد صدر في كراس بعنوان الاستشراق معكوسا، وثمة من الشواهد ما يثبت ان ما اجتذب الاستشراق في هذه المنطقة ليس علومها وآدابها واطلال حضارتها، وهذا ما يتجسد بدقة في ما كتبه مورو بيرغر استاذ علم الاجتماع بجامعة برنستون التي تتمحور فيها دراسات الشرق منذ تأسيسها يقول :
ان منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا ليست مركزا للانجازات الثقافية العظيمة ولا يحتمل ان تغدو كذلك في المستقبل، ومن ثم فان دراسة هذه المنطقة ولغاتها لا تكون المكافأة المرجوة منها بذاتها. والمعادل السياسي لهذا المنطق الكولونيالي الذي يجرد الشرق من تاريخه ومنجزه المعرفي هو عبارة شهيرة لاكسندر هيغ حيث يقول: لا يوجد مكان آخر اهم من الشرق الاوسط لحفظ التوازن بين العناصر المختلفة لسياستنا الخارجية فيها مصالح اقتصادية وسياسية وحتى روحية.
‘ ‘ ‘
ما طرأ على الاستشراق في بعده العسكري والمسلح يضطرنا الى اعادة النظر في تعريفه الكلاسيكي، خصوصا بعد ان اصبح ضحايا الاستشراق هم الذين يبشرون به، تماما كما هو حال هؤلاء الذين وصفهم الشاعر كفافي عندما جلسوا تحت اسوار مدينتهم ينتظرون قدوم الغزاة من البرابرة، لكن الغزاة خيّبوا ظنهم ولم يصلوا الى اسوار مدينتهم، انها ماسوشية تاريخية بامتياز، وادمان وتلذذ بل استمراء للخضوع، فالاستشراق الان ينادى ويستغاث به، وكأن التاريخ ينمو دائريا، ويستعاد هذه المرة في صيغة ثالثة غير الصيغتين اللتين تحدّث عنهما ماركس وهما التراجيديا والكوميديا، ان عودته الان وتكراره هو تراجوكوميديا حيث تتزاوج المأساة والملهاة على مسرح تتردد في زواياه وجنباته اصداء ما وقع قبل اكثر من قرن. في الماضي القريب كان الاستشراق بجناحيه الناعم والمسلح يفرض نفسه تعبيرا عن فائض القوة، ويتمدد بحثا عن اسواق، لهذا كان عليه ان يخترع الذرائع، ويرتدي الاقنعة تماما كما يفعل الصيادون الافارقة عندما يرتدون ازياء توهم الضحية انها من سلالتهم، فلا تفزع منهم، وتسقط اخيرا في فخاخهم وكمائنهم. اما الان فلا حاجة لاختراع الذرائع لأن من يتولى ذلك هو الضحية وكأنها ناءت بحمولة استقلالها وحريتها فقررت التخلي عنهما، واذا كان لا بد من استذكار امثولة لهذا الاستشراق المزدوج فهو ما فعله اهل جزيرة جمايكا عندما استغاثوا بالنموس من الفئران، وسرعان ما خلصتهم النموس من عدوهم، لكنها اتت على كل ما تبقى من جزيرتهم.
‘ ‘ ‘
لقد جرّب المستشرق الاعزل الا من فضوله ومنظاره وآلة التصوير التي يحملها تحويل الكائن البشري الى فأر ابيض لاختباره ونجح الى حد ما لكن حفيده المستشرق المسلح يجرب الان سلاحه الجديد في حروب لا تلحق الاذى ببيئته لكنها تدمر الحياة لعدة قرون قادمة في مسرح التجريب، اما المفارقة فهي انه إذ يقترف كل هذه الجرائم يظفر بالعرفان ويصبح صاحب فضل في التحرير والتنوير وربما التثوير ايضا، وتتغذى ساديته الرأسمالية من ماسوشية ضحاياه.
وما يستحق الفحص الاكلينيكي لهذه الضحية الماسوشية هو انها ترفض تصديق ما يقوله العلماء من احفاد غزاتها عن حقها في الحياة، فبعد عقود من دراسات انثروبولوجية لـ كوهلبرغ وريزيوس وكابرز عن خرافة التفوق العرقي يكتب مفكر عربي هو الدكتور عبد الرحمن بدوي عن الفارق بين الروح السامية والآرية باعتبار هذا الفارق من صميم الفسيولوجيا والكيمياء، فالآرية عناصرها متصلة بعكس السامية ذات العناصر المنفصلة، لهذا فالزمان بالنسبة للسامي لحظات متنافرة لكنه بالنسبة للآري متصل ومستمر وخالد.
هكذا ترفض الضحية ان تصدق بأنها انسان لهذا تتخلى عن استحقاقاتها حتى لو نالتها وتتخلى عن حريتها خوفا من اعبائها وحمولة مسؤولياتها …
‘ ‘ ‘
حين اصدر جاك بيرك الذي كان يسمى شيخ المستشرقين بيانا ينعى فيه الاستشراق الكولونيالي الذي حوّل شعوب الشرق الى بدعة او صناعة فولكلورية، كان العالم بالفعل قد بدأ يصدق الشعار الامريكي في اعقاب الحرب الكونية الثانية وهو تصفية الاستعمار او مرحلة ما بعده. لكن الاستشراق بعد نهاية الحرب الباردة عاد وكأنه كان في عطلة طويلة، وكانت عودته هذه المرة بلا اسطرلاب او حقائب وبوصلات كالتي استخدمها المستشرقون الاوائل، بل هي عودة مسلحة، تارة تحت اسم الناتو وتارة بلا حاجة الى اسماء ما دام الحامي هو الحرامي والقاضي هو الغريم في عالم يعاني من الاحتلال والاختلال معا. وحملات الاستشراق العسكري التي تبحث عن اطلال ومخطوطات وآثار، لأن تلك مرحلة غابرة، وانتهت الى سطو على أهم ما في هذا العالم المنكوب من آثار مما دفع الراحلة ام كلثوم الى الاجابة عن سؤال بعد عودتها من باريس عن اهم ما شاهدت هناك، لم تقل كاتدرائية نوتردام او برج ايفل او حي المونتمارتر بل قالت ان أهم ما شاهدت هو المسلة الفرعونية المسروقة.
القدس العربي كاتب من الاردن.