بغداد /لم يكن إعلان الولايات المتحدة بدء الحرب على العراق في مثل هذه الأيام عام 2003 عملية جراحية تحت السيطرة، كما تخيلها عراقيون التزموا منازلهم مع أول وجبة مسائية من القصف، فمن عرض نفسه كجراح ماهر «يجتث النظام الديكتاتوري من دون أعراض جانبية»، أصاب خلال عملية الاحتلال وبعدها بعشر سنوات مئات آلاف العراقيين بمقتل، سواء بالقصف المباشر أو التهجير أو التدمير الممنهج لبنية المجتمع.
لعبة الخيارات لم تكن لمصلحة العراقيين يوماً، فقد انشغلوا طوال سنوات بالإجابة عن أسئلة بدت عبثية في كثير من الأحيان، فرددوا: «هل كان تمسك صدام حسين بالحكم حتى اللحظة الأخيرة أفضل الخيارات؟ هل إصرار جورج بوش على قرار احتلال العراق، أم إصرار باراك أوباما على الانسحاب أفضلها؟».
لاحقاً بدت الصورة واضحة. فلم يدر في خلد صدام أو بوش أو أوباما يوماً أن الخيارات تختار استناداً إلى مصالح العراقيين.
عندما أسقطت طائرة «بي 52» العملاقة أولى قذائفها على بغداد، كانت شوارع المدينة مضاءة بشكل غير مسبوق، وكان البعثيون يغادرون منازلهم بتكاسل إلى خنادق حفرت قرب أحيائهم، يقضون الليل في الحديث عن مصيرهم بعد زوال النظام، فالأسلحة الروسية الصدئة لن تصمد أمام معدات حرب النجوم… كان واضحاً أن أحداً في بغداد لم يكن في نيته مقاومة الجيش الأميركي، فقط مجموعة شباب بلحى كثيفة معظمهم قدم من سورية كانوا مستعدين للقتال، واكتشفوا سريعاً أن خطة النظام الوحيدة كانت إغراق الأميركيين في الوحل العراقي والتفكير بما يمكن عمله لاحقاً.
غرق النظام، وغرق الأميركيون وغرق العراقيون أيضاً، فـعفاريت بلاد ما بين النهرين لم تكن في حاجة إلى جلسات تحضير أرواح للخروج من قمقمها.
«نقاوم أم نتعاون مع الأميركيين؟ نشارك في العملية السياسية أم نقاطعها؟ نصطف إلى جانب الطائفة ورجال الدين أم ننتخب الليبراليين الجدد»؟ خيارات أخرى طرحها العراقيون لاحقاً، وانقسموا إزائها بحدة واستخدموها لقتل بعضهم بعضاً، فمن اختار المقاومة وصم الآخرين بالعمالة، ومن اختار العملية السياسية عمم صفة الإرهاب على الجميع.
الذكرى العاشرة لبداية الحرب على العراق ليست مختلفة عن ذكراها في السنوات التي سبقت، بغداد تشهد المجازر يومياً، وتخشى الحرب الأهلية مع كل تصريح يطلق هنا أو موقف هناك، والجديد فيها أن الخيارات أصبحت أكثر تعقيداً: هل نتحول إلى دويلات، أم نحتفظ بعراق موحد؟ هل نتبع إيران أم نتبع العرب؟ هل نعد أنفسنا لبدء الحرب الأهلية التي يبشر بها السياسيون أم نكون أدواتها أو ضحاياها؟».
نهاية العام العاشر تشبه إلى حد بعيد نهاية العام الأول، عنوانها مدينة الفلوجة التي سجلت باسمها أولى المعارك الدامية مع الجيش الأميركي، وتسجل باسمها اليوم التظاهرات التي نطقت منذ 80 يوماً بلسان سنة العراق، وطالبت بحقوقهم.
التشابه يمتد إلى عشرات الصحافيين الأجانب الذين تدفقوا إلى بغداد لكتابة تقارير عن الذكرى العاشرة، مشهد فنادق المدينة الشحيحة يذكر بمشهدها في عام 2003، معظم وكالات الأنباء والصحف الغربية التي تزاحمت في بغداد طوال سنوات، غادرتها مع انسحاب الجيش الأميركي.
أحد أصحاب الفنادق الصغيرة التي لم يزرها أجنبي منذ أعوام تساءل بحيرة: هل عاد الاستعراض؟ معظم العراقيين لم يجدوا سبباً لتحظى الذكرى العاشرة بكل هذا الاحتفاء الإعلامي، ومن باب الطرافة قال أحدهم لصحافي أميركي: «أي عشر سنوات؟ إنها تسع زائد واحد، أو ربما أحد عشر ناقصاً واحداً! وعلق أحد الصحافيين العراقيين بالوتيرة ذاتها: يحب الغربيون المناسبات كثيراً، لا فرق جوهرياً بين مرور ربع قرن على نيل فريق كرة قدم كأس العالم وذكرى تدمير شعب.
مرور عشرة أعوام على غزو العراق كان مناسبة لحديث إعلامي أميركي وبريطاني واسع عن مبررات ذلك الغزو، وأخطائه، وإعلان مقتل 116 ألف مدني عراقي وجرح مئات الآلاف الآخرين، على ما ورد في المجلة الطبية البريطانية «لانسيت»، لكن الأسئلة التي توجهها الصحافة الغربية إلى العراقيين بعد كل الخراب الذي حل ببلادهم، تبدو مكررة و «متوارثة» حين تسألهم: «أيهما تفضل نظام صدام حسين أم النظام الحالي؟».
لم يعد العراقيون قادرين على احتمال السؤال، من حولهم وتحت أقدامهم تدور زلازل لن توقفها إجابات تروي عطش مانشيتات الصحف.
عشر سنوات وشبحا بوش وصدام ما زالا يخيمان في سماء العراق. و «المكونات» تستعد لعودة الحرب الأهلية.
الحياة اللندنية – مشرق عباس.