استغرب ممن يتحدثون عن ملفات المستقبل فى ظل الرئاسة الجديدة تجاهلهم لقضية الإسلام السياسى فى مصر والتى باتت تمثل أزمة عميقة لا يجوز إنكارها وينبغى ألا تظل بلا حل.
أعرف الأصداء مقدما. إذ فى أجواء الهيستريا المرعبة التى تخيم على الأجواء المصرية فى الوقت الراهن، فإن أغلب الذين يعنيهم الأمر ليسوا مستعدين للحديث فى الموضوع، الذى يعتبره البعض أغلق «إلى الأبد»، فى حين لا يتردد آخرون فى وصف التطرق إليه باعتباره من قبيل العمالة والخيانة والتآمر مع الإرهاب. وعند الحد الأدنى فإن منهم من سيعتبر محاولة فتح ذلك الملف الذى يقال إن الشعب دفنه بملايينه التى خرجت فى 30 يونيو، بمثابة حيلة إخوانية خبيثة لإحياء جثة هامدة تعفنت وتحللت خلال الأشهر السبعة الماضية، ومن يرد أن يعرف المزيد عن ردود الأفعال التى أعنيها، فعليه أن يتابع سيل الاتهامات التى وجهت إلى الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية، الذى طرح مبادرة نشرت أخيرا ودعت إلى التعاطى السياسى مع الموضوع من خلال لجنة حكماء ووسطاء تسعى لرأب الصدع وترميم الجراح. ورغم أن الرجل مستقل وكان من معارضى سياسة الدكتور محمد مرسى فإنه لم يسلم من التجريح والاتهام والتطاول عليه من جانب الذين أصابتهم اللوثة واستسلموا للهيستريا.
وبعدما نسبت كل شرور الأرض وسخائمها إلى الإخوان، وأفتى بعض أهل الفقه بطلاق الزوجة الإخوانية أو العكس، باعتبار أن ذلك الانتماء يعنى أن الرجل أو المرأة صار قنبلة موقوتة وخلية إرهاب نائمة. ومن هؤلاء من اعتبر وزير الداخلية فى فتوى أخرى بأنه من رسل الله الذين تم ابتعاثهم هو والمشير السيسى لإنقاذ مصر من براثن الجماعة. وبعدما قرأنا لمن كتب فى 6/2 أن الشعب يريد إعدام الإخوان. وكتب آخر فى الجريدة ذاتها يوم 1/2 يقول إنه: لم يعد خافيا على أحد أن مصر تخوض حربا قاسية ضد عدو أكثر خسة ووضاعة من الصهاينة، بعد ذلك كله فإن التضامن مع دعوة الدكتور حسن نافعة إلى التعامل السياسى مع الموضوع يغدو مغامرة أقرب إلى العملية الانتحارية التى لن يخرج المرء منها سليما فى كل أحواله.
فى مواجهة حملة الكراهية التى يشنها الفاشيون الجدد ومعهم المزايدون والمهرجون ألفت النظر إلى الأمور التالية:
• إن الدعوة إلى التفكير السياسى فى الموضوع وعدم الاكتفاء بالحل الأمنى وحده هى لأجل مصر وليس لأجل الإخوان ومن لف لفهم. ذلك أن السلم الأهلى وأبسط قواعد العيش المشترك بل والاستقرار الذى لم تعرفه مصر منذ ثلاث سنوات مرهون بقدرة نظامها على الاحتواء وليس الإبادة أو الإقصاء وبمدى كفاءته فى مد الجسور وليس إقامة الجدران وحفر الخنادق.
• إن أى كلام عن جسور أو تفاهمات لا يعنى التسامح مع كل من ثبت بحقه الضلوع فى أى ممارسة للإرهاب أو إراقة الدماء من جانب أى طرف. وهذا الإثبات لا يتم من خلال التسريبات والتقارير الأمنية والحملات الإعلامية، ولكن لا سبيل إلى إثباته إلا من خلال تحقيق نزيه وقضاء عادل.
• إن الذين يقولون بإغلاق الملف إلى الأبد، لا يرجمون بالغيب فحسب، ولكنهم أيضا يستسلمون لأهوائهم وأمنياتهم بأكثر مما يدركون الواقع أو يقرأون التاريخ. لأننا لا نعرف فكرة اقتلعت بقرار وزارى أو حملة أمنية، حتى إذا لم ترتبط بعقيدة الناس وضميرهم الدينى. وأذكر فى هذا الصدد أن الرئيس السورى السابق حافظ الأسد أصدر قانونا فى ثمانينيات القرن الماضى قضى بإعدام كل من انتسب إلى الإخوان، وفعلها نظيره معمر القذافى فى ليبيا الذى أطلق عليهم اسم «الخوان» من الخيانة، حيث أعدم بعضا منهم بالفعل، ولم يتردد الرئيس التونسى زين العابدين بن على فى قهر أعضاء «النهضة» وقمعهم طوال عشرين عاما، ولكن آمال الجمع لم تتحقق. إذ لايزالون فاعلين فى الائتلاف الوطنى السورى وشركاء فى حكم ليبيا ولاعبين أساسيين يحتلون أغلبية البرلمان التونسى.
• إننا فى مصر نتحدث عن ملف يتضمن ــ حسب المصادر المستقلة ــ أسماء 40 ألف ضحية تقريبا (2700 قتيل على الأقل + 16 ألف مصاب + 21 ألف معتقل بينهم 200 سيدة وفتاة)، وإذا وضعت فى الاعتبار أن كل واحد من هؤلاء ينتمى إلى أسرة من خمسة أشخاص، فذلك يعنى أن المواجهات المستمرة خلال الأشهر السبعة الماضية أصابت نحو 200 ألف شخص بأضرار مباشرة، أضف إلى ماسبق أن أعضاء الجماعة العاملين فى مصر يقدرون بنحو مليون شخص حسب المصادر الإخوانية. وهو ما يعنى أن مصير كتلة بشرية لا يستهان بها من المصريين ينتظر تفاعلا رصينا ومسئولا، (لاحظ أننى لم أشر إلى بقية فصائل الإسلام السياسى)، وليس من الحكمة ان يشطب على هؤلاء بالكامل بعد تصنيفهم فى خانة الإرهاب.
• إن ثمة اعتبارا عمليا يفرض إعادة النظر فى النهج الأمنى المتبع حاليا. ذلك ان الدولة المصرية تخوض حربا حقيقية وشرسة ضد الإرهاب فى سيناء، الذى بدأ يمد نشاطه إلى محافظات أخرى فى البلد، وليس من الفطنة وحسن التدبير ان تخوض الدولة تلك الحرب على جبهتين فى وقت واحد، فى داخل سيناء وخارجها، وربما اقتضت الحكمة ان يتم تسكين جبهة الداخل مؤقتا من خلال التفاهمات السلمية، على الأقل حتى تحسم المواجهة لصالح الدولة فى سيناء.
يثير الانتباه فى هذا الصدد ان الملف الذى يعتبره أولو الأمر مغلقا فى مصر، لايزال مفتوحا فى العالم الخارجى، الأمر الذى يعنى أن كل ما فعلته السلطة المصرية انها أصدرت فرمانا بالإجهاز عليه، ثم دفنت رأسها فى الرمال لكى لا ترى أى أثر له، تشهد بما أدعيه التقارير التى أصدرتها منظمة العفو الدولية، والمناقشات التى جرت فى البرلمان الأوروبى أخيرا والتعليقات التى نشرتها الصحف البريطانية، وكلها أدانت السياسة الأمنية التى انتهجتها الحكومة المصرية فى تعاملها مع الملف، وإذا صح أن المحافل القضائية الأوروبية ستنظر بعضا من القضايا المتعلقة بالموضوع، فمعنى ذلك ان الجدل حول الأزمة المصرية سوف يستمر طوال الأشهر المقبلة.
استوقتنى فى هذا السياق المذكرة التى قدمها إلى الرئيس أوباما بهذا الخصوص اثنان من خبراء معهد بروكينجر، أحد أهم مراكز الأبحاث الأمريكية وهى التى كتبها الباحثان تمارا ويتس ودانيال بايمان، وقد عرض زميلنا الأستاذ محمد المنشاوى ملخصا لها نشرته جريدة «الشروق» يوم الجمعة الماضى 7/2. ومن النقاط المهمة التى وردت فيها ما يلى:
• دعت المذكرة إلى ضرورة تشجيع الحكومة المصرية على التصالح مع رموز جماعة الإخوان الذين يتطلعون إلى حل أزمة علاقة الجماعة بالسلطة والدولة.
• نبهت إلى التصاعد المخيف لأعمال العنف فى مصر. وذكرت أن جماعة الإخوان لم تطلب من أعضائها حمل السلاح واستخدام القوة، وأشارت إلى أن هناك ضغوطا متزايدة فى هذا الاتجاه من شباب الجماعة، تدعمها انتهاكات الحكومة ضدهم وضد قادة الجماعة.
• اقترحت خمس خطوات من شأنها تخفيض مخاطر اتجاه الإخوان إلى الردايكالية (التطرف) هى:
(1) أن تبلغ واشنطن القاهرة بأن تحول الإخوان إلى الراديكالية ليس حتميا. ولتقليل ذلك الاحتمال فإنها اقترحت على القاهرة أن تسمح لبعض قيادات الإخوان وغيرهم من الإسلاميين الذين لم يثبت بحقهم ممارسة العنف بالاستمرار فى الحياة السياسية والاجتماعية، حتى مع استمرار الحظر القانونى للجماعة. ذلك ان وجود تنظيمات سلفية وغير سلفية سيمثل صيغة معقولة من جانب الإخوان تقلل من جاذبية التحول إلى الراديكالية.
(2) على الإدارة الأمريكية أن تؤكد للجيش المصرى دعمها لأى عمليات محدودة يقوم بها ضد الراديكاليين ممن يستهدفون مصالح أمريكية مباشرة مثل أمن إسرائيل، إلا أن على واشنطن أن تؤكد على أنها لا ترى كل الإسلاميين إرهابيين. وفى حين يتعين على الإدارة الأمريكية على دعمها لجهود مكافحة الإرهاب، إلا أنها لا ينبغى أن تعتبر الإخوان جماعة إرهابية.
(3) على الإدارة الأمريكية الاستمرار فى التعامل مع كل القوى والرموز الإسلامية ممن لم يرتكبوا أعمال عنف بمن فيهم جماعة الإخوان داخل مصر وخارجها، وعلى واشنطن الضغط عليهم كى يتمسكوا بالبدائل السلمية فى إطار تأكيدها على المبادئ الديمقراطية ورفضها الحازم لأى دعوة إلى العنف أو التشجيع عليه.
(4) رغم خوف حلفاء واشنطن مثل السعودية ودولة الإمارات من ديمقراطية تأتى بالإخوان إلى الحكم، فإن على واشنطن أن تقنعهم بأن تحول الجماعة للإرهاب والراديكالية ليس فى مصلحتهم. لذا على واشنطن أن تنبه هذه الأنظمة إلى مخاطر دعمها لسياسة الاستبعاد الكامل للجماعة بهدف القضاء عليها.
(5) على المخابرات الأمريكية ان تضع على رأس أولوياتها جمع معلومات عن الإسلاميين المصريين بصفة عامة، مع التركيز على أى علاقة قد توجد بين الإخوان وتنظيم القاعدة والجماعات الجهادية الفلسطينية. وعلى المخابرات الأمريكية العمل عن قرب مع نظيرتها الإسرائيلية فى جمع المعلومات وتحليلها، وعليها أيضا فحص المعلومات التى تصل إليهم من المخابرات المصرية.
سيسارع البعض إلى القول بأن الإدارة الأمريكية تدعم الإخوان وتدافع عنهم، جريا على نهجها الذى ادعته وسائل الإعلام المصرية. لكننى أعلق على ذلك بنقطتين الأولى أن واشنطن تقف أولا مع مصالحها ومستعدة للتفاعل مع أى طرف يحققها سواء كان الإخوان أم غيرهم. وليس دقيقا أنها حريصة على الديمقراطية فى مصر أو فى غيرها من الدول «الصديقة»، لكن الاستقرار الذى يخدم مصالحها هو أكثر ما يهمها، النقطة الثانية أن الموقف الأمريكى الذى يبدو ايجابيا بالنسبة للإخوان يظل مرحليا وتكتيكيا طالما أنهم لم يهددوا مصالحهم. لكننا ينبغى ألا ننسى أن علاقة واشنطن بالنظام الحاكم فى مصر هى علاقة تحالف استراتيجى على العكس ما يتصوره كثيرون ويروج له الإعلام. وهى العلاقة التى سبق أن قلت انها تحتمل اختلافا فى الفروع، فى حين أن أصولها ثابتة لا تمس. وهى تتمثل فى التسهيلات التى تقدم للولايات المتحدة فى مجالات ثلاثة: المرور فى قناة السويس ــ استخدام الأجواء المصرية ــ التعاون الاستخباراتى.
لا أتصور أن تصبح المذكرة الأمريكية بمثابة دليل عملى أو خريطة طريق يهتدى بها فى التعامل مع الأمة المصرية، لكننى أردت بإيرادها أن ألفت الانتباه إلى أن الموضوع لايزال حيا فى العقل الاستراتيجى الغربى وان الادعاء بأن الأمر فيه قد حسم بصورة نهائية وأن باب التفكير السياسى لحل اشكاله قد أغلق ولا سبيل إلى فتحه أو مناقشته، هو من قبيل الوهم الذى لا تؤيده دلائل الواقع.
إن إحدى المشكلات الأساسية التى يعانى منها النهج المصرى فى التعامل مع الملف تتمثل فى أن البعض يتصور أنها معركة فاصلة يتعين أن ينتصر فيها الفصيل القابض على السلطة بأى ثمن على الفصيل القابع فى الشارع والمحتجز فى السجون ومعسكرات الأمن المركزى، لكننا بحاجة ملحة لأن نصحح تلك الرؤية بحيث نطرق بابا يحقق انتصار الوطن فى نهاية المطاف، وليس فوز فريق على آخر. ومن علامات بؤس زماننا أن مثل ذلك الرجاء صار يقابل بالصد والاتهام من جانب الذين يصرون على تحويل المواجهة إلى مذبحة و«هولوكست» جديد ينحاز إلى الإبادة الجماعية، ويدخل التاريخ من أتعس أبوابه.
عن “الشروق” المصرية
أمد